تفتيشات رسم الخرائط ربما ستتوقف ، ولكن المتابعة الاسرائيلية الدائمة ستستمر

حجم الخط

هآرتس – بقلم عميره هاس

التفتيشات العسكرية من اجل “رسم خرائط استخبارية” هي فقط وسيلة من وسائل كثيرة تستخدمها اسرائيل من اجل متابعة ومراقبة وجمع معلومات عن الفلسطينيين. الطرق كثيرة، والمؤسسات التي تنفذ ما يمكن تسميته باختصار تحري دائم عن جميع الفلسطينيين – هي ايضا متنوعة وكثيرة. إن التخلي عن طريقة رسم الخرائط الاقتحامية والعنيفة هو أمرمرحب به بالتأكيد: عدد اقل من الاشخاص، من بينهم اطفال، سيستيقظون مذعورين في الليل عندما يقتحم بيوتهم جنود مسلحون يستمتعون بالقوة التي في أيدهم، أو يخفون مخاوفهم بالبنادق المصوبة وباطلاق اوامر باللغة العربية الركيكة.

​ولكن ايضا بدون هذه التفتيشات فان آلية التجسس متعدد الاذرع على الفلسطينيين تستمر وستستمر في وجودها. جمع المعلومات والمتابعة والرقابة هي محور رئيسي في سيطرة اسرائيل على الشعب الفلسطيني – في اسرائيل نفسها وفي المناطق التي احتلتها في 1967 – وهي ادوات للتأديب.

​هدفها هو جعل الفلسطينيين يمتثلون ويخضعون لسياسة سيطرة اليهود على معظم اراضيهم في الضفة الغربية وفي شرقي القدس وفي اسرائيل نفسها، والتعود على دخولهم الى جيوب الحكم الذاتي المحدود فيالضفة الغربية وفي غزة، أو الى احياء منفصلة في القدس والمدن المكتظة، التي اراضيها تم مصادرتها داخل اسرائيل. عند الحاجة – طالما أن الفلسطينيين يظهرون أنهم لا يخضعون ولا ينصاعون – فان اساليب المتابعة والرقابة وجمع المعلومات تستخدم كعملية تخويف ومعاقبة بوسائل آلية الاعتقال والحكم والسجن، العسكرية والمدنية.

​هناك اساليب متابعة وجمع معلومات بريئة ظاهريا مثل دراسة دقيقةلما يكتب ويقال في وسائل الاعلام الفلسطينية، ومراقبة دقيقة لما ينشر فيالشبكات الاجتماعية – التي هي ذخر لأي جهاز استخبارات، حتى عندمايتعلق الامر بمراقبة ما هو مكتوب بشكل علني وليس مجرد اختراقلحسابات.

​ولكن معظم الاساليب الاخرى تخرق الخصوصية وهي عنيفة (ليسبالضرورة عنف جسدي، بل عنف ينبع من علاقة القوة غير المتناظرة بهدفاساءة استغلال ضعف الفلسطينيين لصالح السلطات الاسرائيلية واليهود). واستخدام العملاء في كل المستويات مثل التنصت على الهواتف، الالزامبحمل بطاقة هوية ذكية، استدعاء لمحادثات في الشباك والتحقيق مع معتقلين في الشباك، باستخدام التعذيب أو بدونه، الاعتقال من اجل جمع معلوماتوادانة (مثلا، الصيادين في غزة أو قاصرين في قرى توجد فيها مظاهرات ضد مستوطنين)، استخدام العصافير في السجن، ارسال اخصائيين نفسيين ومستشرقين وخبراء في الارهاب للحصول على معلومات من سجناء فلسطينيين، استخدام طائرات مسيرة وبالونات تصوير وكاميرات متابعة علىالحواجز.

​هناك ايضا طرق لجمع المعلومات والمتابعة “طبيعية“، هي جزء منعلاقات المحتل والواقع تحت الاحتلال، مثلما نص على ذلك اتفاق اوسلو: استجوابات “ودية” في مكاتب الادارة المدنية، لقاءات ومحادثات ثابتة بينشخصيات اسرائيلية رفيعة وممثلي السلطة الفلسطينية، استجوابات فيالمعابر الحدودية والمطالبة بتقديم معلومات كثيرة اثناء تقديم طلبات الحصولعلى تصاريح التنقل – بالاساس لاغراض علاجية. إن مجرد سيطرة اسرائيلعلى سجل السكان يوفر لها قاعدة بيانات ضخمة عن جميع الفلسطينيين فيالضفة الغربية وقطاع غزة.

​ليس اختراع اسرائيلي

​ليس فقط مؤسسات رسمية مثل الجيش والشباك ومكتب منسق اعمالالحكومة في المناطق وفروعه والادارة المدنية وادارة التنسيق والارتباط هيالتي تنشغل في التجسس الدائم، بل ايضا هناك مؤسسات خاصة، ازدادتمؤخرا، تقوم بفعل ذلك مثل مركز المعلومات عن الاستخبارات والارهاب علىاسم اللواء مئير عميت، جمعية رغفيم التي تتجسس على كوخ أو حظيرة أوسلسلة حجرية يقيمها الفلسطينيون على 60 في المئة من اراضي الضفةالغربية (ما يسمى مناطق ج)، “نظرة على الاعلام الفلسطيني“، جمعية“ان.جي.أو مونيتر“، والحركات الاستيطانية المختلفة والنشطاء فيها. يجبعلى جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية أن تشرك بعضها في المعلوماتالتي جمعتها خلال عملية المتابعة والرقابة التي تقوم بها.

​يمكن تصديق قائد المنطقة الوسطى، الجنرال تمير يدعي، أنه توجدللجيش بدائل تكنولوجية متطورة اكثر. لذلك، هو يسمح لنفسه بالتنازل عنالاقتحامات من اجل رسم الخرائط. ومن المرجح أنه بدون تصميم جمعية“نحطم الصمت” على نشر المعلومات عن اقتحام البيوت لرسم الخرائطالاستخبارية (حتى قبل نشر التقرير حول ذلك)، وبدون الاجراءات القانونيةالتي اتخذها المحامي ميخائيل سفارد وحاجي بنزيمان، اللذان يمثلان هذهالجمعية، وجمعية “يوجد حكم” وجمعية “اطباء من اجل حقوق الانسان“، لميكن الجيش ليتنازل عن هذا الاسلوب.

​الاقتحامات الليلية هي ايضا وسيلة للتخويف، ولبنة اساسية اخرىفي آلية السيطرة. من السهل على الجيش والشباك أن يعتبروا الفلسطينيينمشتبه فيهم من اجل مواصلة اقتحام بيوتهم في الليل. وبناء على ذلك فانالتنازل لا يؤلمهما.

​واقع العيش الى جانب آلية الرقابة والمتابعة وجمع المعلومات استهدفتالتأديب والسيطرة، ليست اختراع اسرائيلي. جيرمي بنتهام، رجل القانونوالفيلسوف البريطاني الذي عاش في القرن الثامن عشر، قام ببناء نموذجلسجن فعال سماه “بان اوبتيكون” (يرى فيه كل شيء). هذا نموذج معماريفيه السجناء يعيشون في غرف مضاءة (بدلا من الزنازين)، ويخضعونلمتابعة مستمرة لسجانين يجلسون في ابراج المراقبة.

​السجناء لا يرون السجانين، لكن ادراك وجودهم ومجرد المتابعة والرقابةتجعلهم ينضبطون. وقد وسع بنتهام هذا النموذج واوصله الى المستشفياتوالمصانع والمدارس، على فرض أن زيادة نجاعتها ستفيد المجتمع. الفيلسوفميشيل فوكو حلل نموذج “بان اوبتيكون” كآلية قوة تمكن من معرفة سلوكالمجتمعات في العصر الليبرالي – الرأسمالي، وتقنيات القمع الخفيةوالمكشوفة التي توجد في أيدي السلطة تجاه جمهور واسع.

​اذا كان يوجد في مجتمعات ليبرالية – رأسمالية عادية آلياتديمقراطية تخفف من حدة اختراق الخصوصية لاجهزة المتابعة العنيفةوتحاول تقليص عدد ضحاياها، فانه في واقع غير ديمقراطي في اساسه مثلالاحتلال الاسرائيلي هذا لا يمكن أن يحدث. الـ “بان اوبتيكون“، السجنالمتطور الذي بنته اسرائيل، هو جوهر الواقع الفلسطيني.