في ظاهرة ملفتة جدا، لم تحدث خلال عهد الرئيس محمود عباس منذ عام 2005، حتى تاريخه، أقدم الاتحاد الأوروبي على توجيه نقد علني للممارسة القمعية التي تنفذها أجهزة السلطة الأمنية بشن حملة اعتقالات تعسفية ضد معارضي الرئيس، ومعاملتهم التي تثير القلق. مؤكدا على ضرورة احترام السلطة حقوق الإنسان لجميع الفلسطينيين وضمانها، بما في ذلك حرية التعبير.
وبعد أقل من 24 ساعة، أكد الاتحاد الأوروبي أنه لن يتم تحويل أموال لخزينة السلطة حتى أكتوبر المقبل وذلك لأسباب فنية وإدارية، كما برروا.
رسالتان في ظرف زمني، ومن جهة هي أهم داعمي السلطة الفلسطينية ماليا، لا يمكن اعتبارها "حدثا عابرا"، أو مصادفة زمنية، خاصة وأن الأمر يتعلق بالحريات العامة وحقوق الانسان في الضفة الغربية، التي تتعرض في الآونة الأخيرة لانتكاسة واسعة، دون أي مبرر أو ذريعة علنية، سوى أن المطاردين والمعتقلين من معارضي الرئيس محمود عباس وسياسته الداخلية والخارجية.
ويبدو أن البيان الأوروبي حول الحريات، جاء كتعبير غاضب بعد قيام الرئيس عباس بإلغاء الانتخابات العامة، التي أعلنها، دون أي سبب جوهري، وفي رأيهم أنها كانت فرصة "ديمقراطية" لانتخاب رئيس، ومجلس تشريعي يمارس الرقابة المالية والأمنية على مجمل سلوك السلطة وممارستها، خاصة وأن سبب الغاء الانتخابات لم يقنع دول الاتحاد.
وجاء الكشف عن عدم تحويل أموال للسلطة منذ بداية العام الراهن، ويبدو أنها لن تحول حتى شهر أكتوبر القادم، هي الرسالة الأكثر أثرا سياسيا، قبل أن يكون ماليا، وارتباطا بنقد علني صريح للمرة الأولى منذ سنوات، حول الحريات وممارسة الأجهزة الأمنية، هناك سلوك سياسي جديد، نحو السلطة والرئيس.
ربما لا يرى مسؤولي السلطة أي قيمة لبيان الاتحاد الأوروبي حول حقوق الانسان، ما لم تغضب أمريكا ودولة الكيان، وتبدأ معه حملة إعلامية واسعة، كما يحدث في مناطق أخرى، عندما تستخدم مسألة حقوق الانسان كورقة وليس كمبدأ، ولذا ربما لن "ترتعش" رئاسة السلطة الفلسطينية وأدواتها التنفيذية، أجهزة ومؤسسات من نقد أوروبي، ولكنها ستبدأ في التفكير بعدم تحويل الأموال بما أنها "الداعم" الأكبر للموازنة والمشاريع.
الرسالة، ليست فنية ولا إدارية مطلقا، رغم تصريح ممثل الاتحاد الأوروبي في فلسطين، خاصة أن الأمر ليس زمنا محدودا بل قد يصل الى عام كامل، كمقدمة عملية ليصبح المال الأوروبي شرطا موضوعيا لتجديد "الشرعيات"، بما فيها الرئاسة والبرلمان، ووضع حد نهائي للحملات القمعية ضد مخالفي الرأي، خاصة من أنصار "القوائم الانتخابية" التي تشكلت خارج الصندوق الحزبي.
اعتقاد السلطة ورئاستها، أنها المطلوب لأي تسوية سياسية كونها "الأكثر" تجاوبا مع شروط الرباعية الدولية، وحرصها على التنسيق الأمني مع إسرائيل لمحاصرة أي فعل كفاحي، في ظل حالة الغضب الشعبي المتنامي، لن يكون "جدارا واقيا" لها كي تمارس ما تمارس، ليس فقط غياب الحريات، بل قبلها غياب الشفافية والمساءلة والرقابة على السلوك المالي والوظيفي.
وفضيحة "اللقاحات" وما رافقها من شبهات باتت الحدث الأبرز، ستلقي بظلالها على مواقف الاتحاد الأوروبي لوضع عراقيل مضافة لعدم دعم السلطة بالمال التقليدي، وارتفاع الأصوات المطالبة بتحديث مؤسساتها وتعزيز مبدأ المساءلة والشفافية، ويبدو ذلك "هدف بعيد المنال" في ظل المشهد القائم من زمن الرئيس عباس.
الغضب الأوروبي داخل "الصالون السياسي" غير المعلن أكثر كثيرا مما تم الكشف عنه، ويمكن لأجهزة الرئيس عباس الأمنية، التي تراقب كل همسة فلسطينية، أن تتابع أحاديث قناصل وسفراء الاتحاد حول رأيهم وموقفهم منه ومن سلطته وطريقة إدارته وحكمه...
هل ما يحدث رسالة أوربية فقط، أم هي مقدمة عملية لتغيير قادم يمثل قاطرة الضرورة لأي حل سياسي تسووي، لم يعد بعيدا، يزيح كل ما يمكنه أن يمثل "عقبة" بشكل أو بآخر...تلك هي المسألة التي يجب قراءتها وبعمق.
ملاحظة: فصائل قطاع غزة التقت لمناقشة فعل جماعي لكسر الحصار، ولكنها لم تصدر بيانا جماعيا...حماس كعادتها سرقت الخبر عبر بيان منفرد...طيب هيك سلوك ممكن أن يبشر خيرا...الصراحة لا ولا كبيرة!
تنويه خاص: منتسبي فتح في قطاع غزة يعلنون ما يشبه "التمرد العام" على سلوك قادتهم، وبلغة لم تكن مسبوقة ابدا...شعارهم غزة مش حمل زائد ويسقط التمييز العنصري الوظيفي...معقول مركزية فتح مش فاهمة أو هي قاصدة...بدها تفكير كتير!