تبوّأت مدينة فيينا مكانة بارزة في الحياة السّياسيّة لكلٍّ من النَّمسا وهنغاريا إذ كانت عاصمة الامبراطورية النّمساويّة –الهنغاريّة تحت حكم سلالة هابسبورغ Habsburg في الفترة الممتدة ما بين 1867-1918. فهي المدينة التي تقع على نهر الدَّانوب الذي يُطلق عليه –أيضًا- نهر العواصم؛ لأنه يخترق أربع عواصم أوروبية…
تحتوي فيينا على العديد من الأماكن الأثريّة والتُّراثيّة والمعالم الفنيَّة مثل دار الأوبرا الشهيرة، ومساكن كثير من مشاهير العالم، فقد احتضنت لفترة من الزمن الموسيقار الألماني الشهير لودفيج فان بيتهوفن وغيره من الموسيقيين مثل شتراوس وموزارت (الطفل المعجزة) وشونبرغ وغيرهم.
ومن فيينا النَّمساوية انطلق فلاسفة “التجريبية المنطقية” بزعامة الفيلسوف موريس شليك الذين قاموا بتفسير الظَّواهر العلميَّة تفسيرًا فلسفيًا يقوم على التَّوفيق بين التجربة والمنطق.
وفي المجال العلمي كانت فيينا مسقط رأس الفيزيائي شرودنجر Erwin Schroedinger الحائز على جائزة نوبل، وواضع أسس علم ميكانيك الكم التي انقلبت على الفيزياء الكلاسيكية المتمثلة بقوانين نيوتن.
بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت فيينا المدينة التي عاش فيها مؤسس مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد مؤسس علم النفس الذي اعتمد في تحليله على الأحلام وربط بين ما كانت تعيشه النساء الثريات وأحلامهن، وكان تركيزه مُنصبًّا على الأحلام عند الناس العاديين والأدب والفن عند الأدباء والفنانين؛ لأن الأحلام والفنون قناع رمزي من خلاله يتعرَّف المُحلّل على نفسيّة الإنسان الذي يهدف في نهاية المطاف إلى إشباع غرائزه وتحقيقها، فالحلم يحقق جميع الرغبات التي لم تشبع باليقظة. وفي المجمل قام فرويد بتعليل جميع الظواهر تعليلًا يرجع للرَّغبة.
ومن طريف فرويد، وهو اليهودي، أنْ وصف الشَّخصيَّة اليهوديَّة بالتَّعقيد والبارانويا (جنون العظمة). لقد عاش فرويد في عمارة تحمل رقم 19 Berggasse في فيينا التي تحوّلت فيما بعد إلى متحف يحمل اسمه.
وعلى الجانب اليهودي نفسه، ومن مصادفات القدر أنْ عاش ثيودور هرتزل المؤسس الحقيقي للحركة الصهيونية في عمارة تحمل رقم 6 من الشارع نفسه بين الأعوام 1898-1896، علمًا أنَّ المؤتمر الصُّهيوني الأوَّل عُقِدَ في مدينة بازل في سويسرا عام 1897. وخلال فترة وجودهما في الشارع نفسه لم يحدث لهرتزل وفرويد أنْ تقابلا شخصيًّا، وحدث أن أرسل فرويد أحد كتبه لهرتزل، إلَّا أنَّ الأخير أهمله تحت ذريعة أن فرويد ليس صهيونيًّا إلى حد يجعله يقرأ ذلك الكتاب.
وهرتزل من مواليد بودابست التي كانت جزءًا من الإمبراطورية الهنغاريَّة-النَّمساويَّة قبل تفكُّكها عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، ويعتبر هرتزل مؤسّس الصّهيونيَّة السّياسيَّة، علمًا أن هناك أشكالًا متعدّدة للصّهيونيّة غير السّياسيّة، كالصّهيونيّة العملية والعماليّة والتّصحيحيّة والثّوريّة والدّينيّة والإصلاحيّة والثّقافيّة، والأخيرة كان مؤسسها آشر غينزبرغ أو كما كان يسمي نفسه (أحد هعام) أي أحد أبناء الشّعب الذي عارض هرتزل إذ أكّد على النّهج العلماني للدّولة اليهوديّة ودعا إلى إنشاء مركز ثقافي في “أرض إسرائيل” ومركز تعليمي ليهود الشتات، وذلك ليكون حصنًا ضد انصهار اليهود في مجتمعاتهم غير اليهودية.
وعندما أنهى هرتزل دراسته الثانوية عام 1878، انتقل مع عائلته إلى فيينا والتحق بجامعتها ليدرس القانون، غير أّنه اتجه إلى الكتابات الأدبية، ثم عمل بعد ذلك صُحُفِيًّا. وقد تم إيفاده إلى باريس من قبل صحيفة نمساوية ليعمل مراسلًا لها هناك، وفي باريس خاب ظنُّه حين رأى مشاعر العداء تجاه اليهود في موطن الثورة الفرنسية كما هي في بلده الأصلي، معتبرًا مشاعر العداء تلك مشكلة اجتماعية ناجمة عن محاولة اليهود دومًا التميز والاختلاف عن الآخرين، وأنَّ الحلَّ يكمن في ذوبانهم وانصهارهم في المجتمعات التي يعيشون فيها. إلَّا أنّه عدل عن ذلك الرأي فيما بعد وبخاصَّة بعد انخراطه في عالم الصّحافة ليخرج بنتيجة وهي أنّ مناهضة مشاعر العداء لليهود لن تحل بالانصهار بل بتكثيف جهود منظمة من قبلهم لتثبيت وجودهم وهويتهم. وممَّا زاد في قناعته تلك حادثة درايفوس عام 1894 التي آلمته كثيرًا، وكان شاهدًا عليها. وتتلخص قضية درايفوس في أنَّ ألفرد درايفوس كان ضابطًا يهوديًّا فرنسيًّا اتّهم بتسريب وثائق عسكرية للألمان. وقد تمت إهانته في الشارع أمام العامّة وتجريده من أوسمته، وخرج الفرنسيون آنذاك إلى الشوارع يهتفون “الموت لليهود”، مما دفع الأديب والكاتب الفرنسي إميل زولا إلى كتابة مقال لاذعٍ ضد الحكومة الفرنسية بعنوان: “أنا أتهم” مما كان له الأثر في إعادة محاكمة درايفوس وتبرئته.
جال هرتزل كثيرًا من البلدان لإقناعهم بأهمية خلق وطن لليهود في فلسطين، فالتقى بالسُّلطان عبد الحميد، وكذلك بالامبراطور البروسي فيلهلم الثاني في فلسطين عام 1898 لإقناع الأخير في دعم المشروع الصهيوني الذي لم يُبْدِ حماسًا لذلك المشروع، وذلك للعلاقة المتميزة التي كانت تربط الامبراطورية البروسية بالدولة العثمانية آنذاك.
لقد تجسّدت الفكرة في دولة، وتم إسقاط أساطير السّماء على الأرض لتبرير إنشائها، وها هم يجلبون اليهود من كلّ أرجاء العالم بعد أن اقتلعوا سكان فلسطين الأصليين، وقاموا بتشتيتهم، وما زال شعبنا يدفع الثمن ويقدم الشهيد تلو الشهيد لتثبيت الحقّ والهُويَّة رغم كلّ المؤامرات التي تُحاك من القريب قبل البعيد. وما زال الغرب يدعم حكومة الاحتلال بالمال والعتاد والأنفس، وساهم لسنواتٍ طويلة في دعم الفكرة الصهيونية التي أفضت إلى إنشاء دولةٍ لليهود على حساب شعبٍ آخر. لقد دفع الشعب الفلسطيني في الشرق ثمن جرائم وإبادة اقترفها الغرب، غير أنّ تجارب كثيرة في التاريخ أثبتت أن النضال من أجل الحق والهويّة لن يذهب سدىً.
وأخيرًا ننوه إلى أنّه يوجد اليوم في أسفل العمارة التي سكن هرتزل فيها مطعم يقدّم وجبات البيتزا باسم “فالنتينو”. ومن مفارقات القدر أنّ مالك ذلك المطعم، منذ العام 1982، هو من عائلة عبد الهادي النابلسية. وقد حدث أن زاره العديد من الشّخصيّات اليهوديّة الذين ألمحوا إلى أمنيتهم باستعادة العمارة التي تصادف أنها مملوكةً للكنيسة لسوء حظهم. فما كان من مالك المطعم إلَّا أن أجابهم: ألا يكفيكم اغتصاب الأرض والوطن، وتسعون الآن لاغتصاب لقمة العيش؟