من الآخر، غير مقبول على الحكومة الثامنة عشرة تشكيلها لجنة للتحقيق في قضية الشهيد «نزار بنات» المروعة، كوْن الحكومة متورطة في القضية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عبر مسؤوليتها عن الأجهزة الأمنية، التي اقتحمت وسحلت واعتقلت وضربت بما أفضى إلى وفاة غير طبيعية. ومرفوض التعامل مع القضية بشكلية والرهان على الوقت بهدف امتصاص الغضب الشعبي، كبديل للاستجابة لنبض الشارع ومطالبه برحيل الحكومة والحفاظ على أمن المجتمع والسلم الأهلي.
قضية «نزار بنات» تحولت إلى قضية رأي عام، لا يمكن المرور عنها قبل عودة الحق الخاص والعام لأصحابه، حق عائلة الشهيد وحق الرأي العام. ولن يعود الحق العام والخاص إلّا بمحاسبة ومساءلة المسؤولين، كلُ بحجم مسؤوليته، وإعادة الاعتبار لوظيفة الأجهزة الأمنية ورؤيتها ورسالتها، بما هي حماية الشعب الفلسطيني وحقوقه الأساسية وتطبيق القوانين المقرة وليس استباحتها.
ولكي يكون التحقيق شفافاً ونزيهاً ويصل إلى نتائج يتم إعلانها على الشعب، ينبغي إظهار ما خفي من الصورة التي قام بتظهير بعض جوانبها شهود العيان من العائلة والجوار، بمعنى إظهار جميع من وقف خلف التعليمات والأوامر ومن وضع الخطة والحبكة وتحديد مسؤولياتهم وفقاً للقانون وعقابهم، فقد بات واضحا سبق الإصرار والتعمد الممارسين بعد اعتقاله ثماني مرات متتالية.
المطلوب من لجنة التحقيق المتشكلة من الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان ومؤسسة الحق بعد إعلانها النتائج الأولية، أن تستكمل التحقيق بعد وصول النتائج الطبية الكاملة وتوسيع اللجنة بإدماج المؤسسات الحقوقية والشخصيات المميزة بنزاهتها واستقلاليتها البعيدة عن التأثر بالموقف الرسمي، ليس لإظهار وإعلان الحقيقة المتعلقة باغتيال الشهيد وملابساتها أمام الرأي العام فقط، بل مطلوب منها كذلك رفع التوصيات المتعلقة بدمقرطة الحالة الداخلية وإصلاح الوضع الداخلي والخطوات الكفيلة لتعزيز حكم القانون والحريات العامة واحترام حرية الرأي والتعبير التي اهتزت أركانها.
نحن على عتبات التغيير، هذه حقيقة واضحة المعالم لا يمكن أن يخطئها أصحاب البصر والبصيرة، يمكن ملاحظتها من خلال حالة النهوض الوطني العام في مواجهة الاحتلال، حالة من استعادة الشعب دوره القيادي، حالة الاستنهاض الجديدة ليست تفاصيل وأنشطة هنا وهناك أو تعكس مزاجاً إرادوياً غير مدقق، بل صحوة وحالة جماهيرية جاءت بعد تأجيل الانتخابات التشريعية التي عقدت عليها آمال التغيير، من أجل رفض ومقاومة النهج الداخلي الذي أصبح يُشكل خطورة على حياة وأمن ووحدة المجتمع.
أصبح الحديث عن عدم تطبيق السلطة القرارات والمعاهدات التي تبنتها، يتكرر كبديهية. لقد وقعت السلطة على اتفاقية مناهضة جميع أشكال التعذيب وعلى بروتوكولها وأعدت تقريرها الوطني الأول، إلا أنه لم يتم نشرها في جريدة الوقائع الرسمية، كما انضمت إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين للحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية ذات الصلة بالحق بالتعبير والمعارضة، وأصبح مكروراً الحديث عن أن السلطة لا تقيم وزناً يُذكر لبعض قراراتها التي يترتب عليها التزامات اتجاه المجتمع وحقوقه، ومنها تطبيق المرسوم الرئاسي بشأن الحريات العامة الصادر في العشرين من شباط الماضي 2021. ويُطالب المرسوم في مادته الثانية حَظْر الملاحقة والاحتجاز والتوقيف والاعتقال لأسباب تتعلق بالرأي، وتطالب مادته الثالثة إطلاق سراح المحتجزين والموقوفين والسجناء على خلفية الرأي والانتماء..لنستنتج بعد جميع هذه المراسيم والقرارات والاتفاقيات أنها بالجوهر شكلية يُقصد بها التمظهر بالديمقراطية ومجرد حبر على ورق.
إلى أين نحن ذاهبون بعد مؤشرات النهوض الوطني وتعزيز المقاومة التي شهدتها القدس والشيخ جراح وسلوان وبيتا وغزة، إلى أين سنصل فيما تنزوي السلطة بعيدا عن نبض الشعب..؟
ليس من خيارات أمامنا لتلافي الوقوع بالفوضى أو خلق المزيد من الفجوات والانقسامات سوى تحديد موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية والمحلية فوراً.. من أجل تحكيم إرادة الشعب وخياراته ومن أجل الرقابة على السلطة التنفيذية ومساءلتها، والانتخابات هي الممر الوحيد الآمن لإعادة بناء النظام السياسي والتفرغ للمعركة الرئيسة مع الاحتلال.
رحم الله الشهيد «نزار بنات» الذي انتهت حياته دفاعاً عن حقه في التعبير عن رأيه وموقفه الذي آمن به، معارضاً ومدافعاً عنيداً عن كلمته الحرة التي لم يحتملها البعض.. فكممه إلى الأبد.