الذكرى الأولى لوفاة الكاتبة المبدعة رضوى عاشور

Radwa_photo4
حجم الخط

تحلّ الذكرى الأولى لمبدعة من نسيج خاص، حكّاءة وصاحبة موقف وواهبة للأمل وحارسة لورود التفاؤل رغم المسيرة التي اعترضتها عوائق بلا حصر، سواء في الواقع العام أو في الجسد الذي خاض معركة طويلة مع السرطان.. لكن وسط كل ذلك سلمت الروح، وصفا القلم، لتبدع «السيدة راء» ثلاثيات ملحمية، تطوف بين الأمكنة والأزمنة، من الأندلس وموريسيكيها، إلى فلسطين ولاجئيها، وسواهما من البقاع التي كانت مسيّجة بأشجار الزيتون.

حتى بعد غيابها؛ مازالت كلمة رضوى عاشور تفرض حضورها وألقها، فالعديد من رواياتها وكتبها، تتصدر قائمة الأكثر مبيعاً في دار الشروق، التي أكدت خلال مشاركتها في الدورة الأخيرة لمعرض الشارقة الدولي للكتاب، أن «ثلاثية غرناطة» و«الطنطورية»، وغيرهما من أعمال رضوى عاشور، كانت من بين الأكثر طلباً من القراء، ومن أجيال منوعة تبحث عن إصدارات المبدعة الراحلة.

يشار إلى أن رضوى عاشور (1946 – 2014) روائية وناقدة وأستاذة جامعية مصرية، نشأت وسط عائلة تقدّر العلم ومنزلته، وحرصت على إلحاق أبنائها بالمدارس. وواصلت رضوى عاشور مشوار تعليمها لتتخصص في الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة، وحصلت على الماجستير في الأدب المقارن عام 1972، وعلى الدكتوراه في الأدب الإفريقي من جامعة ماساتشوستس بأميركا عام 1975. ترجمت أعمالها إلى الإنجليزية والإسبانية والإيطالية والإندونيسية. نالت العديد من الجوائز منها: جائزة سلطان العويس للرواية والقصة (2012)، وحصلت رواية «ثلاثية غرناطة» على جائزة أحسن رواية من معرض القاهرة للكتاب (1994)، والجائزة الأولى للمعرض الأول لكتاب المرأة العربية (1995)، ومن اعمالها الروائية: «سراج»، و«أطياف»، و«قطعة من أوروبا»، و«فرج»، ومن أعمالها القصصية «تقارير السيدة راء»، ولها عدد من الكتب النقدية والدراسات المنشورة. والدكتورة رضوى هي زوجة الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، وأم الشاعر تميم البرغوثي، فالعائلة كلها مهمومة بالكلمة، وكذلك بالمواقف التي دفعوا جميعاً ثمناً لها.

7سبتمبر 2014، هو التاريخ الذي «توقفت فيه الكاتبة عن كتابة نص «الصرخة»، «وحسب الكمبيوتر الخاص بها فإن آخر تعديل حفظ في ملف النص تم الساعة السادسة و37 دقيقة من مساء ذلك اليوم»، كما ذكر هامش في نهاية «الصرخة»، لتودع الكاتبة الحياة في 30 نوفمبر من العام نفسه، ليكون آخر عهدها بالنص أقل من شهرين.

«الصرخة».. آخر أعمال رضوى عاشور، سرد ما قبل الرحيل، والذي لاح بعد غياب الكاتبة المصرية، إذ ظهر النص وشجنه وألمه ليكمل ما جاء في «أثقل من رضوى» الذي حكت فيه صاحبة «ثلاثية غرناطة» أجزاء من سيرتها، وكشفت عن العديد من الملامح الذاتية، ولكن – كعادتها - لم تنس الهمّ العام، وما تمرّ به البلاد والمنطقة من شروق وغروب للأحلام والأماني في سنوات الالتباس الأخيرة.

يعد كتاب «الصرخة» مغايراً بشكل ما لما قبله «أثقل من رضوى»، إلا أن خيط السرد الحميم يسري بين النصين، يبوح بكل شيء، ولا يهاب الكشف عن أدق التفاصيل، وثمة امرأة صلبة تحاول التماسك مع أن الأمل يتسرّب من بين يديها، لا تعلم صاحبة القلم من أين ستأتيها الطعنة: من الرأس الذي احتشد بأورام بالجملة، أم من الواقع الذي يحرق، كما ذكرت في كتابها الحافل بالأسى، والمحتشد بالوجع.

ولا يعني ذلك أن السرد في كتاب «أثقل من رضوى» كان خالياً من الألم، بل كان فيه الكثير من اليوميات المبكية، لكن تزاحمها لحظات سعادة بالجملة وحسّ فكاهي يشهر ضحكته في وجه المرض، حتى إن رضوى عاشور كانت تدلّل المرض، تطلق عليه أسماء شاعرية، تشبّه الورم بالبرتقالة التي نبتت وراء أذنها، تستفيق من جراحة ما في أميركا، ويكون سؤالها الأول هو عن مصير القابعين في الميادين، منتظرين تلوين المنطقة بما كانوا يحسبونه ربيعاً.

ولم تزاحم الغيوم كل الصفحات في كتاب «الصرخة»، فثمة مشاهد كثيرة تحاول التشبث بالأمل، وجيل الغد، وأن الأستاذة الجامعية قد غرست الكثير في النفوس، وهو ما كان في المشهد النهائي الذي احتفى بالوليدة «بهية».

«الصرخة».. درس أخير، ألقته ربما رضوى عاشور قبل الوداع، مفاده أن الكلمة رفيقة الدرب حتى النهاية، وأن المبدع ينبغي ألا يذهب وفي قلمه بقية من حبر، أو في وجدانه حكاية لم تقل، وبوح خاف أن يصرح به، قد يخرج ذلك مفرحاً أحياناً، ومبكياً أخرى، لكن هذا هو المبدع الحقيقي الذي يضع نفسه أمام القارئ في كل حالاته، في لحظات التجلي، وأيضاً في محطات ضعف بشرية تجعل الحكاية لا تموت لأنها تشبه الإنسان بكل فرحه وألمه.

أكثر من سيرة

«أثقل من رضوى»، و«الصرخة»، لا يعدان الكتابين الوحيدين اللذين يبرزان محطات حياة مؤلفتهما الدكتورة رضوى عاشور، إذ تحضر ملامح من سيرتها في العديد من أعمالها، لاسيما «الرحلة» الكتاب الذي تروي فيه يومياتها مع البعثة خلال دراستها للدكتوراه في أميركا خلال مرحلة الدراسات العليا. وحتى في رواياتها، تحضر ظلال العائلة والمحيط القريب، خصوصاً أن رضوى كانت تحاول بناء رواياتها بشكل مركب مغاير، مرة بعين على الواقع القريب، وأخرى بالذهاب إلى التاريخ، والاشتباك معه، والاقتراب من شخصيات حقيقية أو متخيلة، أناس مكلومون بالإجبار على ترك الديار، أو البقاء بهويات وأسماء جديدة، وحتى من يبقى لابد أن يتخلى عن ماضيه، ويشاهد بعينيه مخطوطات نفيسة تأكلها نيران القشتاليين في غرناطة، أو أشجار زيتون تقلع في طنطورة فلسطين، قبل الحصاد.