إلّا الانزلاق!

عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد المجيد سويلم

الإرباك الذي تشهده الساحة الفلسطينية لم يبدأ من قضية اللقاحات ولا مقتل نزار بنات.
هاتان المسألتان ساهمتا بصورة عميقة وحساسة في تفاقم مظاهر هذا الإرباك، وأضفيتا عليه طابعاً خاصاً وخطيراً بشكل غير مسبوق، وتحولتا إلى مفصل سياسي، وإلى مفترق نوعي جديد، قد يؤدي إلى الانزلاق نحو كارثة وطنية إذا لم يتم التوقف بمسؤولية أمام هذا المختنق الوطني الكبير.
بدأ الإرباك والارتباك الأكبر، من فشل اجتماعات القاهرة.
صدم الشعب الفلسطيني كله، في الداخل وفي الخارج وهو يرى أن أولى «بشائر النصر المؤزّر» كانت الإفشال المبيّت لذلك الاجتماع، عندما اكتشفت القيادة المصرية أن الأمور لم تعد تسير، ولم يعد بالإمكان أن تسير وفق أسس ومبادئ وقواعد الشراكة الوطنية، وان الشروط الجديدة التي وضعتها حركة حماس على هذه الشراكة لا تعني في الجوهر سوى شيء واحد وهو: إما الإذعان للشروط الجديدة، «وهي شروط انقلابية في البعد السياسي»، أو الافتراق التام والبحث عن «البدائل» التي يمكن أن تتوفر لحركة حماس وأعوانها من اجل الانقضاض على المنظمة وعلى المؤسسات الوطنية والاستيلاء عليها.
هنا بدأنا موجةً جديدة من الاحتقان والتوتير، ومن هنا بالضبط بدأ الإرباك الداخلي الذي نشهد بعض فصوله، الآن.
أي بدلاً من استثمار النصر المعنوي الذي تحقق أساساً بمقاومة المقدسيين، والتحام الضفة مع هذه المقاومة، ثم هبة الداخل الفلسطيني، ثم التحاق غزة عسكرياً بهذا الجهد الوطني النوعي الجديد، وتفاعل هذا الجهد عربياً وشعبياً قبل كل شيء، ثم عالمياً وبصورة غير مسبوقة، وكل هذه الحالة من وحدة الشعب الفلسطيني ومن عودة الحياة والمكانة للقضية الوطنية... بدلاً من استثمار كل هذا التطور النوعي الجديد في المسار الوطني باتجاه تصليب العامل الذاتي الوطني الذي سيبني على هذا التطور فوجئ الجميع أن جماعة «الانتصار المؤزّر» ليسوا بكل هذا الوارد، وأن أطماعهم وطموحاتهم هي الأهداف الوحيدة لهذا «الانتصار».
وبسبب هذا الإرباك المفاجئ، وبسبب تداعياته بالذات، وبسبب الموجات الإعلامية المنظمة التي رافقته، والتي جاهرت وعلى رؤوس الأشهاد بشعارات انقلابية وليست ديمقراطية، واشترك فيها وشاركت في الإعداد لها جهات داخلية وخارجية معروفة لدينا ولغيرنا، أيضاً، وفي تعميق محتواها الانقلابي، وزجّ بمفردات التخوين لتكون هي وليس غيرها مادة التخاطب والتحريض... بسبب كل ذلك شعرت القيادة الرسمية الفلسطينية أن ثمة من يريد حرف كامل المسار الوطني نحو تلك الأهداف، والتي ليس من بينها على الإطلاق مسألة الشراكة الوطنية، وأن ثمة من «يخطط» للانقلاب على الداخل الوطني، وتغيير الحالة الوطنية نحو احتراب سياسي قد يفضي إلى التصدع الكامل والانقسام النهائي، هذا إذا لم تنزلق الأمور إلى ما هو أخطر، وإلى ما هو أبعد من ذلك كله.
ناهيكم طبعاً أن تأجيل الانتخابات والتي لعبت دورها، أيضاً، في الاحتقان الداخلي، وبدأت تفعل فعلها في «تهيئة» الأجواء للإرباك الوطني الشامل الذي دخلنا في صلبه، اليوم.
السلطة الشرعية مقابل هذا الإرباك الجديد والخطير، وبدلاً من استخلاص العبر، وبدلاً من أن يشكل هذا الإرباك عاملاً محفزاً لتحسين الأداء وإعادة التواصل مع أوسع القطاعات الجماهيرية، وبدلاً من أن تحاول عبر إجراءات وحتى سياسات تبرز دورها في تحمل مسؤولية المشروع الوطني والدفاع عنه، وبدلاً من أن تشرع وعلى الفور ومباشرة في الدعوة لحوارات وطنية بمشاركة القوائم الانتخابية والأحزاب والفصائل، وبمشاركة فاعلة من المجتمع المدني لإعادة تأكيد المسار الديمقراطي والانضباط لكل متطلباته، وتفويت الفرصة على الطامعين والطامحين من كل الأنواع والأصناف... بدلاً من ذلك وجد المجتمع الفلسطيني نفسه أمام حدثين كبيرين أثّرا بشكل خاص على سمعة السلطة وألحقا بها أضراراً فادحة وفتحا الباب على مصراعيه لموجات من الغضب الشعبي العارم.
هذا الغضب في جوهره محق، وله خلفية وطنية، وهو التعبير المباشر عن خوف الناس على المشروع الوطني، وأكثرية الناس الغاضبة تريد أن ترى السلطة وهي تلمّ الشمل وتبادر إلى الإصلاح، وتشرع في قطع الطريق على كل من يحاول استثمار الدماء والتضحيات الوطنية لأهداف خاصة ومصالح خاصة واعتبارات وأجندات خاصة.
هذا غضب في جوهره وطني ومبرر بل هو علامة صحة وطنية، ومؤشر على وعي ومسؤولية وطنية بصرف النظر عن كل راكبي الموجات.
لكن السلطة الرسمية والشرعية بدلاً من قراءة الواقع الجديد بصورة تحتم عليها انتهاج منطق الصحوة والإصلاح وتحصين الذات الوطنية لم تبادر إلى كل ذلك، بل لم تبادر بما يكفي من سياسات وإجراءات لمحاصرة «قضية اللقاحات» ولم تحرك ساكناً سياسياً يعتد به لمحاصرة الآثار التي نجمت عن مقتل نزار بنات، ما أعطى لقوى ركوب الموجات المزيد من هوامش الإرباك، والمزيد من فرص التشكيك بمواقف القيادة وأدائها، وبما وضع المجتمع الفلسطيني والشعب الفلسطيني أمام حالة خطرة من الانقسام السياسي الجديد والذي يمكن أن يصل بنا إلى مرحلة الانزلاق.
ما هي مرحلة الانزلاق وما هي مؤشراتها؟
مرحلة الانزلاق ـ كما أراها ـ هي وصول حالة الاحتقان السياسي في البلاد إلى طريق مسدود، وإلى تصدعات اجتماعية ومناطقية، وإلى تمترسات يصبح بموجبها الصدام هو الأسلوب الوحيد للخروج من المأزق أو إبقاء الأمور عند درجة معينة من الاحتقان والتوتر بحيث تتحين القوى المتصارعة الفرص «المواتية» لساعة الصدام. وبالملموس فإن حالة الانزلاق تعني إنكار وجود أزمة، وربط الأزمة برمتها «بالمخططات الخارجية والمؤامرات الداخلية»، ورفض الاعتراف بالقصور أو الفساد أو الإهمال أو الارتجال، وإرجاع كل صغيرة وكبيرة في حراك الشارع إلى تلك المخططات والمؤامرات. هنا تتمظهر الأزمة بعدم تحمل المسؤوليات، والتعامي والتغافل عن الرقابة والمحاسبة، وتنحية سيادة القانون لصالح بعض «النخب» التي ترى في الاعتراف بالأخطاء والمحاسبة عليها رضوخاً لإرادة الشارع، واستسلاماً أمام القوى التي تعمل على الإطاحة بالمشروع الوطني وكذلك بالاستيلاء الانقلابي على المؤسسات الوطنية.
وهذا هو المظهر الأبرز في الوصول إلى حالة الانزلاق.
المظهر الثاني لحالة الانزلاق، هو أن تتصدر المشهد المعارض قوى سياسية طامعة وطامحة بهذا الانقلاب، وهي بالأساس لا تؤمن بالديمقراطية، وانقلبت عليها، ومستعدة لمعاودة الانقلاب عليها في أي لحظة سياسية مواتية.
وفي الحالة الملموسة فإن حركة حماس هي آخر قوة سياسية على وجه البسيطة يمكنها التحدث عن الحريات، وعن الديمقراطية وعن حقوق الإنسان وهي تختطف أكثر من مليوني فلسطيني وتضعهم في سجن كبير وتساوم عليهم لفرض مصالحها الحزبية الخاصة.
أما «حزب التحرير» فهو كما نعرف حزب يعادي كل نزعة تحررية لشعبنا، وطنية كانت أو اجتماعية، وهو لم يطل على شعبنا طوال عشرات العقود إلا لاستثمار الأزمات الوطنية بهدف تدمير كل ما هو وطني فيها.
فعندما تكون حركة حماس، و»حزب التحرير» في قلب معركة الديمقراطية والتغيير، وفي صلب معركة الحريات فإن وضعنا يكون على أعتاب الانزلاق الكبير لأن الانزلاق جزء أصيل من استراتيجياتهما.
وثالث هذه المظاهر، هو غياب الفوارق الفاصلة أحياناً، وربما غالباً بين المعارضة الوطنية الديمقراطية، والتي من حقها بل ومن واجبها أن تعارض وتعترض، ومن حقها ومن واجبها أن تحشد القوى الحية في المجتمع لصالح عمليات التغيير الديمقراطي بالوسائل السلمية والديمقراطية وفي إطار القانون واحترام النظام.
فعندما يضيع صوت العقل، عقل المعارضة الوطنية الديمقراطية، أو عندما لا يكون هذا الصوت هو الأقوى، وهو الذي يقود المعارضة والاعتراض، وعندما تكون هذه القوى، ومعها كل قوى المجتمع المدني الفاعلة والحية مجرد تابع وأحياناً ذيلي للقوى الرجعية أو العشائرية أو القبلية الاجتماعية أو المتسترين بالعسكرة، فإن الانزلاق ومرحلته ومؤشراته تكون ماثلة للعيان وأمام الأعين مباشرة. ما زال بالإمكان أن نتفادى كل ذلك، أو جزءاً كبيراً منه، وما زال بالإمكان الوقوف بمسؤولية وطنية أمام كل هذه الأخطار.
نقطة الانطلاق في هذا كله أن تبادر «فتح» إلى كل ذلك وبسرعة، وأن تبتعد عن عقلية الاعتقاد بأن بالإمكان حماية المشروع الوطني دون إصلاحه ومراجعته والمحاسبة على تنفيذه.