فسحة كيري؟!

30_1428063573_9503
حجم الخط

يبدو أن زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة كانت تستهدف دعم إسرائيل في مواجهة التصريحات التي ذكرتها وزيرة الخارجية السويدية مؤخراً والتي قالت فيها إن الفلسطينيين لا يرون أي مستقبل لهم في ظل الاحتلال الإسرائيلي. كيري الذي التقى كلاً من الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على حدة، لم يقدم أي أفكار جديدة تتعلق بالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، بل كانت زيارته محددة تتصل بإسناد وإقواء الموقف الإسرائيلي تجاه عنفه وإرهابه المتغطرس ضد الشعب الفلسطيني. التفهم هذا جاء بتصريحات رسمية صادرة عن كيري وصف فيها المقاومة الفلسطينية وعمليات الطعن والدهس الشرعية بأنها هجمات "إرهابية" وتستحق الإدانة، وهو بذلك يكون أضفى الشرعية على الجلاد الإسرائيلي الذي يمارس أقصى العنصرية ضد الفلسطينيين، متناسياً من الذي أشعل جذوة الهبة الفلسطينية وأذكاها بسبب الأساليب الوحشية التي مورست بحق الفلسطينيين. لقد حاول كيري أن يستمزج رأي نتنياهو بخصوص تقديم خطوات إسرائيلية تضفي أجواء إيجابية على الوضع الراهن، لكنه لم يحصل سوى على جواب مفاده التهدئة مقابل التهدئة، أي أن نتنياهو يريد أن يتوقف الفلسطينيون عن مقاومتهم مقابل توقف الاعتداءات الإسرائيلية. هذا الذي حمله وزير الخارجية الأميركي إلى الرئيس عباس الذي لم يكن يتوقع أن تقدم واشنطن حلولاً لمطالب السلطة الفلسطينية، ويفهم من لا جديد كيري أن إسرائيل ماضية في مخططاتها ويمكنها المضي في الاستفراد بالوضع الفلسطيني والتطاول عليه أكثر وأكثر طالما لا يلقى هذا الموضوع اهتماماً دولياً كما كان من قبل. بعد عودته إلى بوسطن قادماً من منطقة الشرق الأوسط، قال كيري إن الفلسطينيين والإسرائيليين وصلوا إلى نقطة حاسمة وأن الأمر متروك لهم لاتخاذ قرارات مهمة تصب في مصلحة التسوية السياسية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. هذا التصريح يؤكد إفلاس السياسة الأميركية التي لم تكن لديها أصلاً تصورات جريئة واضحة لحالة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ومن المرجح أن الإدارة الأميركية الحالية لن تقدم أي شيء جديد يدفع باتجاه التسوية، خصوصاً وأن كيري استبق زيارته إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة بنفي الحديث عن مبادرة لإحياء المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية. تصريحات كيري على خطورتها ستسمح لإسرائيل بمواصلة قبضتها الحديدية تجاه الفلسطينيين، فلم يكن نتنياهو بحاجة إلى تشديد لكماته العنصرية ضد الفلسطينيين بضوء أخضر من واشنطن، لكن حديث كيري يريح رئيس الحكومة الإسرائيلية ويعطيه المزيد من الدعم لاستهداف الفلسطينيين. ومشاهد القتل الإسرائيلي العمد للفلسطينيين كثيرة جداً، فلم يعد القتل بمجرد الفعل الفلسطيني، وإنما تعداه إلى القتل على خلفية الاشتباه وحمل أي نوع من المعادن، وهذه رسالة إسرائيلية تهدف من ورائها إلى تخويف الفلسطينيين وإجهاض مقاومتهم المشروعة. زيارة كيري لم تقتصر على التعبير عن عميق التضامن الأميركي مع إسرائيل فحسب، وإنما مناقشة ما يقلق القيادة الإسرائيلية من موضوعين رئيسيين هما الملف النووي الإيراني والنزاع السوري، ذلك أن تل أبيب تنظر بقلق للتواجد العسكري الروسي في دمشق. إن آخر ما تفكر به الولايات المتحدة الآن هو موضوع الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ذلك أنها تخصص جهدها فيما تبقى لها من وقت، في السعي لتمكين الحزب الديمقراطي في الانتخابات المقبلة، وعلى المستوى الخارجي ممارسة دور القيادة على دول العالم وإذكاء العداوة مع روسيا. هذه الالتفاتة إلى بعض الملفات الحساسة مثل الملف الإيراني والسوري والأوكراني، لا تخصص حيزاً من الوقت لمتابعة الملف الفلسطيني، ولذلك جاءت جولة كيري إلى المنطقة لتؤكد على عمق العلاقات الاستراتيجية الأميركية- الإسرائيلية وكفى. لقد انتهت صلاحية الإدارة الأميركية بخصوص الملف الفلسطيني، ولن يجد نتنياهو أي ضغوط تمارس عليه في إدارة هذا الملف، بل إنه سيستثمر تصريحات كيري ودعم واشنطن لإسرائيل في إضعاف السلطة الفلسطينية وإبقائها عند حدود التنفس لا أكثر. وكالعادة يخادع نتنياهو برفضه تقديم أي تسهيلات للطرف الفلسطيني أو الاستجابة لأدنى شروطه، باعتبار ذلك يدعم "الإرهاب" ويحفز الفلسطينيين على الاستئساد، وهذا التسويق الكاذب يأتي في سياق الاستراتيجية الإسرائيلية لقبر مشروع الدولتين. حتى لو افترضنا أن السلطة الفلسطينية تمكنت من احتواء الهبة الجماهيرية، فإن شخصاً مثل نتنياهو لن يقدم على إجراءات جوهرية أو إيجابية مثل إطلاق سراح بعض الأسرى القدامى وتجميد الاستيطان، وأكثر ما يمكن أن يقدمه إجراءات تتعلق بتسهيل حركة الفلسطينيين والإفراج عن أموال الضرائب الفلسطينية التي تراكمها وتحتجزها إسرائيل. هذا ليس له علاقة برجل واحد فقط هو نتنياهو، ذلك أن أغلب الإسرائيليين اليوم مستنسخون عن رئيس حكومتهم، وهذه السياسة العامة تتصل بالعقيدة الإسرائيلية التي ترفض الحقوق الفلسطينية وتتجاهلها وتقدم الأسباب والذرائع الواهية التي تمكن الاحتلال من إفشال الدولة الفلسطينية المستقلة. أضف إلى ذلك أن كل تحركات كيري في المنطقة أثبتت أنه لعبة في يد نتنياهو والحكومة الإسرائيلية التي طالما استقبلته بالانتقاد وتعميق الاستيطان في الضفة الغربية الذي ترى الإدارة الأميركية أنه غير شرعي، ومع ذلك يبلع كيري "الموس" بصدر رحب ويواصل حماية إسرائيل والتأكيد على سلامتها وسلامة أمنها. ولا يبدو في الأفق أن الهبة الفلسطينية ستتوقف في ظل تواصل العنصرية الإسرائيلية طالما وأن التوحش والإرهاب الإسرائيلي يُولّد رد فعل فلسطيني، والأولى أن تدرك القيادات الإسرائيلية الرسائل المهمة التي يقدمها الشباب الفلسطيني في مسيرة هذه الهبة. إن انخراط الفلسطينيين في الفعل المقاوم وبكافة الأشكال ناتج عن انعدام مستقبلهم الذي تستهدفه إسرائيل في الصميم، وهذا الحق المشروع ينبغي الإشادة به دولياً وعربياً على وجه التحديد، إذ تقع مسؤولية كبرى على الدول العربية في تمكين ودعم المشروع الوطني الفلسطيني التحرري. والفصائل الفلسطينية أيضاً مطالبة بدعم ومد الهبة الجماهيرية بكل مقومات الاستمرارية والحياة، لأن الاحتلال الإسرائيلي لن يتحرك ويقدم شيئاً للفلسطينيين إذا لم يتألم، والتجارب السابقة تقول إن المفاوضات لم تحقق نتائج جيدة تنعكس إيجاباً على القضية الفلسطينية، وإنما صنعت من مشروع الدولة مشروع اللا دولة. -