ثمة إعجاب شديد بصمود الفلسطينيين في غزة بعد سلسلة من الحروب والاعتداءات الإسرائيلية الشرسة عليهم، ومع تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتفاقم الأزمات وتعددها من انقطاع الكهرباء المستمر إلى نقص موارد الطاقة ومعها الموارد المائية.
الحصار الاقتصادي الذي فرض على غزة إبان نكبة الانقسام الداخلي العام 2007، جعل الحياة في القطاع صعبة إلى درجة كبيرة، خصوصاً حين تطل فتنة الانقسام وتهدد السلم الاجتماعي وحين ينقسم المواطنون بين مؤيد ومعارض لسلطة الأمر الواقع.
عدا الحصار الاقتصادي، ثمة عوامل أخرى ضاغطة وتؤثر بقوة على الحالة الصحية والمعنوية للفلسطينيين، ولا يمكن عزل مسألة تردي الأوضاع المعيشية والحروب الإسرائيلية المخيفة على الوضع البدني والنفسي لآلاف الأطفال والنساء وكبار السن وحتى الشباب أيضاً.
المشكلة تكمن كذلك في زيادة الأعباء، فحين لا تكون هناك سلطة جامعة تعبر عن الكل الفلسطيني، فهذا يعني تغييرا في الأولويات وتوزيعا غير عادل في إدارة الأموال العامة. عدا أزمة الثقة التي تسيطر على الفلسطينيين إزاء كل الفصائل الفلسطينية بما فيها فتح وحماس.
يضاف إلى كل ذلك الحروب الإسرائيلية المتكررة التي تزيد الطين بلة وتحيل الميسورين وأصحاب الطبقات المتوسطة إلى فقراء، وأما الأخيرون فيزدادون فقراً، ذلك أن الحرب في مفهومها الشامل عدوان على الشعب الفلسطيني واستهداف مباشر للاقتصاد والموارد الطبيعية وغير الطبيعية والبنى التحتية.
هناك آلاف القصص التي تحكى عن مآسي الفلسطينيين في تأمين قوتهم اليومي بعد تآكل الراتب الشهري بفعل الديون وتسديد القروض والفواتير الضرورية، والأزمات الاقتصادية التي تتعرض لها السلطات في غزة والضفة والتي تحيلها فوراً إلى وقف النثريات والساعات الإضافية وتأجيل دفع الرواتب أو صرف نصفها أو ثلاثة أرباعها.
أضف إلى ذلك أنه ليس هناك من أفق سياسي أو اقتصادي يدفع الفلسطينيين إلى تنفس الصعداء، وحتى الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة التي شكلت عنواناً للوحدة الفلسطينية وبداية نهاية الانقسام الداخلي، استثمرت بطريقة سلبية جعلت أجواء الاقتتال والتلاسن الفصائلي تطغى من جديد.
كان الفلسطينيون في غزة يعولون كثيراً على جولة الحرب الإسرائيلية الأخيرة هذه على القطاع من حيث تحريك ملف الانقسام الداخلي وتخفيف الحصار المفروض على غزة، وتنشيط الاقتصاد المتدهور وفتح آفاق جديدة للعمالة المحلية تحت بند إعادة إعمار القطاع.
هذا لم يحصل أبداً، والنتيجة أن الفلسطينيين غرقوا إلى آخرهم في البحث الفردي كل من موقعه في تخفيف الهموم والأوجاع الاجتماعية والمعيشية، وفاتورة الحرب خلفّت الكثير من ملايين الدولارات التي يحتاجها المواطنون لتأمين أيامهم، ومع ذلك هناك تقصير كبير من قبل القيادات الفلسطينية وكذلك المجتمع الدولي بشأن تقليل النكبات التي تلاحق الفلسطينيين في غزة.
هذا لا يعني أن باقي المواطنين في الضفة يعيشون حياة «سمن على عسل»، فهم يعانون أيضاً من مآسي الانقسام الداخلي، والكثير منهم فقد ابنه أو أرضه أو منزله من أجل مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، غير أن غزة تشهد ظروفاً اقتصادية صعبة للغاية وتحتاج إلى معالجة سريعة لتجنب آثار ما بعد الصدمة.
البنك الدولي قدّر الخسائر المباشرة جراء الحرب «الأيارية» الإسرائيلية على غزة بأكثر من نصف مليار دولار، وحذر من أن عدم ضخ مبلغ 485 مليون دولار على مدى عامين لإعادة بناء غزة لن يحقق لها التعافي السريع، في الوقت الذي يعتبر فيه قطاع الإسكان الأكثر تضرراً بنسبة 93% مقارنة بباقي القطاعات الأخرى.
انسداد الأفق السياسي وتآكل النسيج الاجتماعي وتدهور الوضع الاقتصادي أكثر وأكثر عوامل أثرت في الكثير من الفلسطينيين الذين «تمسحوا» مع الزمن، أي أنهم فقدوا الإحساس بالوجع وقلة الحيلة وتعايشوا مع الأمر الواقع. لكن هناك ما هو أبعد من «التمسحة» إذا ظلت الأحوال على نفس السلوك والمنهج.
القلق كل القلق من مرحلة ما بعد الصدمة، فهذه المرحلة التي يقف فيها الكثير من المواطنين ومن مختلف الفئات العمرية على طريق الاكتئاب وحرق الأعصاب وبداية الأوجاع النفسية أو ما تسمى نوبات واضطرابات الهلع المرتبطة بالخوف من المجهول والتفكير الزائد عن الحاجة في مقتضيات الحياة العامة.
العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة وقبله الاعتداءات المدمرة ومعها ضبابية المشهد الفلسطيني وتآكل السلم الأهلي وإضعاف الاقتصاد إلى الحضيض، جميعها عوامل تهدد الحالة النفسية للفلسطينيين، إلى درجة أن غزة باتت تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في عدد المصابين بنوبات الهلع واضطراباتها.
ناهيك عن أولئك الذين لم يلجؤوا لاستشارات طبية، إما لضيق الحال وإما إنكاراً لما ألّم بهم من اضطرابات نفسية، واعتبار الذهاب إلى هذه النوعية من الأطباء رفاهية لا يمكنهم تحملها والتفكير فيها حتى لو كانوا مقتنعين بأنهم مرضى.
نوبة الهلع رديفة تماماً في أعراضها للنوبة القلبية، وفي غزة ليس هناك عدد كافٍ من الأطباء النفسيين الذين يمكنهم تشخيص الحالة بنوبة الهلع، والنتيجة أن المريض يخضع لفحوصات وتحليلات دم كثيرة ويغرق في بحر من الخوف الشديد إلى أن يستدرك أنه معافى بدنياً غير أنه متعب نفسياً.
وسط حالة اليأس الشديد والتعب والقلق المسيطرة على الفلسطينيين في غزة، لا بد من التركيز على الصحة النفسية للمجتمع من حيث تأهيله لتجنب الانفعال العاطفي، لأن كثرة الأحمال وكبت المشاعر والضغط النفسي تولد جميعها أمراضاً نفسية إذا لم يتم علاجها بالسرعة الممكنة فقد تتطور إلى أعراض صحية بين المتوسطة والخطيرة.
هذه هي قصة الفلسطيني الذي ينبغي عليه أن يصمد ويقاوم الاحتلال الإسرائيلي، ويحفر في الصخر حتى يؤمّن قوته وقوت أولاده وربما أقاربه وجيرانه الأشد فقراً منه، ويطالب بالوحدة الداخلية أو يدير ظهره للانقسام الملعون، وفوق كل هذا وذاك أن يسترخي ولو قليلاً و»يفصل» كما يقول المثل، حتى لا تستوطن بدنه كل أمراض الدنيا.