تتركز مواقف واهتمامات مركز القرار الفلسطيني على تجديد ثقة المراكز الإقليمية والدولية بالشرعية الضعيفة المتراجعة بعد تأجيل الانتخابات.
ويلاحظ أن الاهتمام لا يقيم وزناً لمصدر الشرعية الأساسي المتمثل بالفلسطينيين داخل وخارج فلسطين.
لا يزال هذا الاختلال سيد الموقف وهو مرشح لمزيد من التضعضع. فلا تكون شرعية لأي قيادة أو منظمة أو تنظيم أو سلطة معزل عن الشعب الذي هو مصدر للسلطات وأساس كل شرعية.
كذلك فإن الصراع مع الاحتلال الاستيطاني الماضي في تكريس صفقة القرن يعتمد أساساً على مشاركة ودور الشعب.
وإذا بقيت قيادة المنظمة والسلطة منفصلة عن الشعب فإن الفشل والمزيد من الفشل سيكون حليف أي قيادة أو جهة تقامر في تجاهل الشعب.
فإذا كان نموذج الانفصال عن الشعوب لدى أنظمة عربية وغير عربية، تمكنت من البقاء في الحكم بالاستناد لمؤسسات الأمن والجيش والدولة كبديل للشعب. أما في حالتنا التي بقيت فيها السيادة للاحتلال فإن خسارة الشعب تعني خسارة الشرعية وكل شيء تقريباً، لا سيما أن الحصاد السياسي لسياسة الاعتماد على النظامين الدولي والعربي كان خالي الوفاض، بل تمكنت دولة الاحتلال من إحداث التغييرات على الأرض – تعميق الاحتلال والاستيطان والسيادة والضم الفعلي - وأوجدت لها غطاء سياسياً أميركياً عبر صفقة القرن وكانت الخاتمة محاولة ترسيم الضم بقرارات من المؤسسة الإسرائيلية.
ما أود قوله هنا، إن اعتماد مركز القرار الفلسطيني على النظام الدولي ووساطاته لإنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان بحصاد صفر، زعزع الثقة الشعبية بالمسار السياسي الذي اعتمدته القيادة وجعل رصيدها الشعبي متدنياً.
ولا يغير من هذا الواقع البائس محاولات إحياء الرهان مرة أخرى على إدارة بايدن وكذلك الرباعية الدولية التي لعبت دور شاهد زور وأمّنت الغطاء للسياسة الأميركية المنحازة.
ولن تغير الوعود والمواقف – الأقوال دون أفعال - المعادلة لطالما بقيت دولة الاحتلال تجسد صفقة القرن على الأرض قبل وبعد إعلانها وحتى هذه الأيام.
إزاء ذلك، فإن ترميم وتقوية البيت الداخلي الفلسطيني له أولوية سياسية حاسمة، لا سيما أن ضعف وتفكك النظام السياسي الفلسطيني وانفصاله عن أكثرية الشعب بات يستخدم لتبرير الإمعان الإسرائيلي في الضم الفعلي وفي تصفية القضية الفلسطينية، ويستخدم أيضاً في تبرير التواطؤ الدولي والعربي الرسمي مع سياسات الأمر الواقع الاستيطانية الاستعمارية.
والأهم من ذلك فإن الحاجة الفلسطينية للديمقراطية ليست ترفاً وفائضاً عن حاجة المجتمع الفلسطيني، فالديمقراطية تعني مشاركة قطاعات واسعة من الشعب في مقاومة الاحتلال والاستيطان وفي بناء مؤسسات المنظمة والسلطة والمجتمع المدني، وفي التنمية الإنسانية والاقتصادية، وفي التصدي للفساد الداخلي بما في ذلك استغلال العاملين، وفي تكريس حريات عامة وخاصة على قاعدة الحق في التعبير والنقد والمساءلة والمحاسبة والشفافية.
الطريق إلى ترميم وتقوية البيت الفلسطيني يبدأ بوضع نهاية لتمركز السلطة المفتقدة لأي سيادة ولهيمنتها على الحقل السياسي، وفصلها عن المنظمة وحركة فتح والاتحادات الشعبية والمهنية والنقابات، وإلزام أجهزة الأمن بدورها ووظائفها المحددة في النظام الأساسي، ووضع حد لتدخلاتها وسيطرتها على الحكومة ووضع حد لانتهاكها الفادح للقانون، بقتل الناشط السياسي نزار بنات وقمع الصحافة والإعلام وتقييد الحريات ...الخ
حجر الأساس في إعادة تعريف الصلاحيات، هو إعادة النظر في مكانة وموقع ودور حركة فتح التي لا يزال جسمها العريض يحمل مقومات التطوير والتغيير.
ما يجدر قوله هنا أنه ما قبل التحرر من الاحتلال من الخطأ انتقال حركة فتح إلى موقع الحكومة حتى وإن كانت محسوبة سياسياً على الحركة.
وقد أثبتت حكومة د. محمد اشتية صحة هذا التقدير. من المفترض أن تخضع الحكومة إلى رقابة ومساءلة ونقد ومحاسبة من المجلس التشريعي، وفي غيابه الطويل أو المؤقت تنتقل الرقابة والمحاسبة إلى المجتمع المدني وبخاصة إلى التنظيمات السياسية الحية والمتجددة.
ولكن عندما تكون حركة فتح هي السلطة، كذلك حركة حماس هي السلطة في غزة، يتم إغلاق الحياة الديمقراطية وتكريس تنظيم حاكم فوق الرقابة والمساءلة، ويكون الرد على الاحتجاجات الشعبية بالقمع.. ليس هذا وحسب، بل يصبح الدفاع عن السلطة وعن أخطائها وتجاوزاتها من مسؤولية التنظيم الذي يُجيّشْ أعضاءه ومناصريه للدفاع عن السلطة، وفي هذه الحالة لا يتحقق الدفاع عن السلطة إلا باستخدام العصبيات التنظيمية تحت مقولة - انصر أخاك ظالما أو مظلوماً -.
إن تحول حركة فتح إلى فصيل مدافع عن السلطة وأخطائها وانتهاكاتها وأجهزتها الأمنية، يتناقض مع دورها التاريخي ومع انفتاحها على الاتجاهات السياسية والفئات المجتمعية الفلسطينية الواسعة، ويتناقض مع مواكبتها وفتح الجسور مع الرأي العام العالمي وأصدقاء الشعب الفلسطيني الذين سجلوا راهناً تطوراً مهماً في الدفاع عن الحق الفلسطيني المشروع في التحرر والخلاص من الاحتلال الكولونيالي والعنصرية.
انغلاق حركة فتح يشكل ليس انتكاسة لها كتنظيم بل انتكاسة للوطنية الفلسطينية التي قادتها الحركة منذ نصف قرن ونيف. لهذا فإن انتكاسة فتح في غياب بديل وطني ديمقراطي يعني خسارة للوطنية الفلسطينية بكل ألوان طيفها السياسي.
يجوز القول إن حركة حماس قدمت دليلاً على رغبتها في خسارة فتح بحسبة فئوية خالصة.
عندما استخدمت حركة حماس عملية (سيف القدس) لحسم المعركة مع حركة فتح ووراثتها في المنظمة والتمثيل، ومن يدقق في الخطاب السياسي والإعلامي الصادر عن قيادات الحركة سيجد مثل هذا الهدف واضحاً ولا لبس فيه.
موقف حماس الفئوي ساهم في تعزيز التعصب والانغلاق الفتحاوي، كذلك شوش الاحتجاجات المناهضة للقمع ولجريمة قتل نزار بنات، وقلل من شعبيتها التي ارتفعت إبان المواجهة.
ما يهم عدم بقاء الأحوال على حالها، والكف عن سياسة تدوير الزوايا داخل المستنقع الآسن. مطلوب الانتقال من هذه الحالة المزرية وخساراتها السياسية والمعنوية الفادحة، من خلال شحن كل إيجاب والمحاسبة على الأخطاء والانتهاكات.
دور حركة فتح وحكومتها بحاجة إلى إعادة نظر، والتحقيق في قضية نزار بنات وتقديم المتهمين للعدالة لا يحتمل التأجيل، وتحديد تاريخ جديد للانتخابات خلال فترة زمنية كافية للمراجعة والمكاشفة، ووضع معايير مهنية وأخلاقية تتجاوز الشعبوية والعصبيات.