لم تكن أزمة مقتل نزار بنات سوى القشة التي قصمت ظهر البعير، لتكشف عمق الأزمة الوطنية المتمثلة بالانقسام السياسي وحالة الاستبداد التي تَتعمّق وتُوّسع معها الفجوة بين المواطنين وقوى الانقسام السلطوية المهيمنة على المشهد الوطني العام.
جذر هذه الأزمة، ومن ضمنها ظاهرة الإقصاء ومنع الحق في التعبير والتظاهر وما رافقها من اعتداء على المتظاهرين كمظهر من مظاهر الاعتداء المنظومة القانونية واستقلال سلطة القضاء، يكمن بصورة جوهرية في غياب، والإصرار على تغييب، العقد الاجتماعي بين السلطة الحاكمة والمواطنين، وجوهر هذا العقد في ظروفنا الراهنة يكمن في ممارسة المسؤولية وآليات المساءلة التي تُرسخ معادلة "من يعمل عند من؟" وبما يُكرس قواعد المواطنة التي لا تقتصر فقط على حرية الرأي والتعبير، بل وتشمل حق المواطن في مساءلة ومحاسبة السلطات. وفي ظلّ غياب المساءلة البرلمانية فإن الأزمة تتفاقم عندما تعتدي السلطة التنفيذية "المتقادمة" على حق الناس بالمساءلة الشعبية بكل أشكالها من حرية الرأي والتعبير والحق في التظاهر ومحاربة المحسوبية والفساد، وغيرها من الوسائل التي ضَمِنَها القانون الأساسي، كما كفلتها تجربة وروح الكفاح الوطني التي تُلزم الجميع ضرورة ممارسة النقد، والحق في الاختلاف لتصويب المسيرة والبوصلة الوطنية في مواجهة الاحتلال.
منذ نشأتها فشلت السلطة، وكذلك المعارضة، في بلورة فلسفة الحكم لمرحلةٍ ما زال شعبنا وحركته الوطنية لم يستكملا مرحلة التحرر الوطني بعد. فبتشكيل السلطة الوطنية تداخلت مهام التحرر الوطني مع متطلبات البناء الديمقراطي بصورة لا يمكن الفصل بينهما؛ بل ولعل تغييب أي منهما سيشكل المعرقل الجوهري لإنجاز المهمة الثانية، وكنت قد كتبت يومًا أن الالتزام بقواعد البناء الديمقراطي في حالتنا، باتت شرطًا واجبًا لإنجاز التحرر الوطني، وأنه دون المشاركة الشعبية وبلورة صيغ قادرة على تنظيم العلاقة بين السلطة والمعارضة، التي تصرفت منذ عام 1994 حتى عام 2006 كحالة رفض أكثر مما هي معارضة، لضمان عدم تغييب أو تهميش مسألة البناء الديمقراطي بمكوناتها الأساسية المتمثلة بصياغة جوهر وظيفة السلطة بكل مؤسساتها في خدمة أهداف التحرر الوطني وجوهرها تعزيز قدرة الناس على الصمود في مواجهة مخططات الاحتلال، وصون الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير والإبداع والنهوض بفلسفة المنظومة التربوية والخدمات الصحية؛ فبدون الاهتمام الجدّي بذلك كله، وغيرها من الخدمات، سيكون من المستحيل أن تمارس السلطة الوطنية دورها كرافعة أو ركيزة في خدمة عملية إنهاء الاحتلال وإنجاز التحرر الوطني إن لم تتحول بالواقع إلى عبئ على إنجازه.
إن الانقسام في أحد جوانبه يشكل أحد تعبيرات هذه الأزمة، والتي أنتجت في أحد مظاهرها اقتسام البلد عندما فشلت السلطة والمعارضة في ممارسة التداول السلمي للسلطة، وفي تنظيم أسس فلسفة الحكم وآليات عمل المعارضة كمرحلة تحوُّل تربط بين التحرر الوطني بمتطلبات الشراكة والوحدة الوطنية والبناء الديمقراطي وما تستدعيه من إطلاق حرية الرأي والتعبير والحق في التنظيم و كل متطلبات الحكم الرشيد لضمان العدالة و الكفاءة في تقديم أفضل الخدمات التي تُصوب بوصلة وجوهر وظيفة السلطة في تعزيز صمود الناس بكل مكوناتها ولا شيء غير ذلك.
انحراف الحركة الوطنية عن هاتين المهمتين المتداخلتين، والربط الدقيق بينهما، يشكل في الواقع جذر الأزمة، والتي تفاقمت تجلياتها بانهيار برنامج التسوية دون إجراء أي مراجعة، واستمرار سلوك المعارضة كحالة رفض أكثر منها معارضة، إلى أن تمكنت من السلطة في انتخابات 2006، فتقمّصت دور الحاكم المستبد الذي يريد إقصاء خصومه وهكذا دواليك!
دون إعادة بناء فلسفة حكم واضحة تحظى بالإجماع لوظيفة السلطة على أساس الربط الدقيق والموضوعي بين مهام التحرر الوطني والبناء الديمقراطي بكل مكوناتهما، و ليس الترديد الأجوف لشعارات"بدكو وطن أكثر و لا مصاري أكثر" أو " الجوع ولا الركوع" اللذان يفصلان بين النضال الوطني ومتطلبات الصمود بصورة عبثية مضللة، وكذلك وسائل النضال الناجعة والأكثر ملاءمة والتي تحظى بالإجماع الوطني التي تضمن تماسك كل منهما، وحماية التعددية السياسية والفكرية، سنظل ندور في ذات الحلقة المفرغة، والتي في الواقع تُشكل السبب الجوهري الكامن وراء عملية تحول الحركة الحاكمة للسلطة الوطنية (فتح) لحزب السلطة الحاكمة، على حساب دورها كحركة تَحرر، الأمر الذي يعمق يوميًا أزمتها مع الشارع ويحولها تدريجيًا لأداة في يد سلطة تنزلق بتسارع كسلطة مستبدة، وصل الأمر بحزبها الحاكم إطلاق التهديدات لمعارضيها، ناهيك عن التحول الذي يجري داخلها ويمسّ طابعها التعددي بل ورايتها، كما جرى في مسيرتها الأخيرة قبل أيام. ذات الأمر ينطبق على حركة حماس، بالإضافة إلى أنها تظهر الوجه الآخر للمعادلة التي جعلت حركة حماس تُغفل وتتجاهل متطلبات الحكم بما يوازن ويعالج من قدرة الناس على الصمود، الذي أدّى فيما أدى للانفراد بأشكال النضال نحو واقع مَكّن قوات الاحتلال من استمرار إحكام الحصار ومواصلة الحرب والعدوان على أهلنا في قطاع غزة، دون رادع جدّي ينهي معاناتهم المتفاقمة، وإطلاق يد اسرائيل بفعل هذا الانقسام للاستفراد بالضفة لتهويد القدس ومصادرة الأرض والتوسيع غير المسبوق لنطاق الاستيطان في مختلف أرجاء الضفة الغربية.
إن أي معالجة للأزمة الوطنية بعيدًا عن هذا الفهم، سيُبقينا نغوص أكثر فأكثر في حفرة الطميْ التي أوقعنا أنفسنا بها، وسيخسر الجميع باستمرارها، ويبقى الاحتلال هو الرابح الوحيد إن لم نتدارك الأمر ونُسارع إلى معالجة وطنية ديمقراطية مسؤولة تعيد للمواطن مكانته وللمؤسسة الجامعة دورها. فتغييب المؤسسات الجامعة للمساءلة والمحاسبة البرلمانية والمؤسسات التنفيذية الموحدة، بالإضافة للتباين الاستراتيجي في وسائل تحقيق الأهداف الوطنية، كلها عوامل تسرّع من عملية التدمير الذاتي التي تتناقض مع إرادة الوحدة الشعبية التي أدركت بحسّها الكفاحي لمضمون فلسفة المشاركة الشعبية لمتطلبات الحكم، فتوحدت إرادتها ضدّ التطهير العرقي في القدس وفي مواجهة الاستيطان في العديد من بؤر الكفاح الوطني في الضفة، ورفض العدوان على قطاع غزة، كما توحدت ذات الإرادة ضد الاعتداء على سلطة القضاء والمسّ باستقلاليته وهيبته وحياده، وكذلك ضد الاعتداء على الحريات عبر قانون ما يسمى بالجرائم الالكترونية، والانجرار للحكم البوليسي الذي بلغ ذروته بتصفية نزار بنات. ذلك كله يجري دون أن تلتفت القوى المهيمنة لإرادة الناس باستعادة هويتها الجامعة بين مختلف التجمعات الفلسطينية في الوطن و بلدان الشتات، واحتياجات الواقع والتطورات الإقليمية والدولية إزاء القضية الفلسطينية، بما فيها التحولات الجارية على صعيد الرأي العام العالمي سيّما في الولايات المتحدة وأوروبا.
إن مدخل المعالجة والتي عبّر عنها بيان مطالب الحراكات الاحتجاجية برفع الغطاء عن قتلة بنات ومحاكمتهم وإقالة الحكومة لتشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية بالصلاحيات التي نص عليها القانون و التي تمكنها من معالجة عاجلة لكافة الملفات المزمنة ، وتضع حدًا للهيمنة والتفرّد، وتفتح الباب لإعادة توحيد البلاد وترميم وتجديد الحركة الوطنية عبر الانتخابات الديمقراطية، والأهم التوافق على أسس الحكم بما يعيد لنضال شعبنا وقضيته مكانتهما، من خلال الربط الواقعي بين مهمام التحرر والكفاح الوطني ومتطلبات أسس العدالة والبناء الديمقراطي التي تضمن كرامة وحقوق المواطنين وقدرتهم على الصمود واستعادة الأمل بإنجاز الحرية والخلاص من الاحتلال.