خـفـايـا مـرعـبـة مـن تـاريـخ مـنـسـي

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

قبل قرن بالتمام والكمال، في حي تولسا بأوكلاهوما، داس بالخطأ شابٌ أسود اسمه «ديك رونالد» على قدم موظفة بيضاء اسمها «سارة بيج»، فصرخت بأعلى صوتها، فهرب الشاب على الفور، على إثر ذلك هرعت الشرطة ومعهم غلاة العنصرية يبحثون عنه، وبعد اعتقاله قرروا إعدامه، لهذا ثار السود وحاصروا السجن، فقام مدير السجن بتهدئتهم، ليتفرقوا بعدها ويعودوا إلى بيوتهم.


في المساء قامت الشرطة بتسليح مجموعة من البيض، وساندتهم في الهجوم على الحي، فأحرقوه على من فيه، حتى إنهم استعملوا الطائرات التي رمتهم بالمقذوفات، قُتل يومها نحو 300 من السود، ودُفنوا في مقبرة جماعية، وجُرح 800 آخرين، إضافة للمئات ممن سجنوا وعذّبوا.


مؤخرا تم توثيق القصة في فيلم حمل اسم «تولسا.. النار والنسيان»، كما كتب الممثل توم هانكس مقالاً في «نيويورك تايمز» جاء فيه: «لم أقرأ أبداً صفحة من أي كتاب تاريخ مدرسي عن قيام حشد من البيض عام 1921 بإحراق مكان يُدعى «بلاك وول ستريت»، وقتل 300 من مواطنيه السود، وتشريد الآلاف الذين كانوا يعيشون في تولسا». كما زار البلدة الرئيس بايدن، وتحدث عن المذبحة مستنكراً تجاهلها.


وفي ولاية كولومبيا في كندا، تم اكتشاف رفات 215 طفلاً (أغلبهم بعمر 3 سنوات) كانوا يدرسون في مدرسة كاملوبس، التي أغلقت في عام 1978، وهي مدرسة بريطانية داخلية خاصة بأطفال الهنود الحمر؛ وهذه المدرسة تعتبر الأكبر في كندا حيث كانت تتسع لحوالي 500 طفل.


وكان النظام التعليمي في كندا يفصل أبناء السكان الأصليين عن ذويهم قسرا، تحت ذريعة الإدماج الثقافي، والذي هو في الحقيقة مجزرة عرقية وثقافية، حيث وصلت أعداد الأطفال المخطوفين من أهاليهم إلى 150 ألف طفل في تلك المدارس التي كانت تديرها كنائس، في الفترة من أربعينيات القرن التاسع عشر وحتى تسعينيات القرن العشرين. وكان الأطفال يتعرضون لانتهاكات جسدية مروعة ولاغتصاب وسوء تغذية وفظائع أخرى، تحدثت عنها تقارير كندية رسمية.


وقد اعتذرت الحكومة الكندية في 2008 رسميا عن نظام تلك المدارس، التي تم إغلاق آخرها عام 1996. وتعليقا على هذا الأمر كتب رئيس الوزراء الكندي «ترودو»: «الأنباء عن العثور على رفات أطفال في مدرسة كاملوبس الداخلية تفطر قلبي.. إنها ذكرى مؤلمة بفصل قاتم ومشين في تاريخ بلادنا»، وطالب الكنيسة الكاثوليكية بتحمل مسؤوليتها عن المجزرة.


نفس هذا الأسلوب العنصري الإجرامي كانت تمارسه أستراليا بحق السكان الأصليين «الأبورجينيز»، حيث كانت السلطات تخطف الأطفال من عائلاتهم، وترسلهم إلى مدارس وكنائس في الطرف الآخر من القارة.. لكن الحكومة الأسترالية توقفت عن هذه الممارسات في العام 1974، واعتذرت رسميا عن هذا التاريخ المشين.


وفي أستراليا أيضا، في أواسط القرن التاسع عشر نفذ المستعمرون البيض سلسلة مذابح بحق السكان الأصليين، منها مذبحة ووترلو، نونتين، مافرا، سكل كريك، جيبسلاند، موريندال.. حيث قتلت شرطة الخيالة الاستعمارية آلافا من السكان المحليين. وكانت آخر مذبحة معروفة رسميًا وقعت في مزرعة مواشي في وسط أستراليا، قتل فيها 170 شخصا انتقامًا لمقتل صياد  يُدعى فريدريك بروكس.


وفي سيريلانكا، وقعت مذبحة أوفا، سنة 1818، حيث أباد الجيش البريطاني جميع السكان المحليين، الذين تزيد أعمارهم على 18 عامًا، وهدم جميع القرى في منطقة أوفا، انتقاما لمقاومة تلك القرى ضد الاحتلال البريطاني.


وفي سنة 1871 دخل حشد مكون من 500 شخص من العنصريين البيض إلى الحي الصيني في لوس أنجلوس، وقاموا بالاعتداء على السكان، وتهديم بيوتهم وتخريب ممتلكاتهم، ثم عذبوا وقتلوا العشرات.


في كولورادو، سنة 1914، حدثت مجزرة لدلو؛ حيث هجم حراس معسكر شركة كولورادو للوقود والحديد على مخيم يؤوي عمال المنجم الذين كانوا مضربين عن العمل مع أسرهم، فقتلوا نحو أربعين شخصاً، منهم نساء وأحد عشر طفلاً.. كانت مذبحة لدلو لحظة فاصلة في العلاقات العمالية الأميركية؛ وصفت على أنها أعنف نضال عمّالي ضد أصحاب الشركات في التاريخ الأميركي. وقد استجاب الكونغرس للغضب الجماهيري، ما كان له تأثير على تعزيز قوانين العمل وعمالة الأطفال.


وفي سنة 1907 حدثت مذبحة في تشيلي بحق العمال المضربين، قتل فيها نحو 3600 شخص من عمال المناجم، مع زوجاتهم وأطفالهم، ارتكبها الجيش التشيلي في منطقة إيكيكي.


وفي الهند، سنة 1919 أطلق 90 جنديًا بريطانيا من «الجيش الهندي البريطاني»  النار على تجمع سلمي غير مسلح من الرجال والنساء والأطفال، واستمر إطلاق النار 15 دقيقة حتى نفدت الذخيرة، وكانت النتيجة مقتل الآلاف.


أما في الدومينيكان، سنة 1937، فقد وقعت مذبحةسميت مذبحة البقدونس؛ لأن الجنود الدومينيكان كانوا يطلبون من أولئك الذين يعتقدون أنهم هايتيون نُطق كلمة بقدونس، وحسب اللكنة كان الجنود يعرفون جنسية الشخص ويقضون عليه؛ حيث قتلوا نحو 38 ألف شخص باستخدام المناجل وقطع الرؤوس؛ ثم نقلوا الناجين منهم إلى ميناء مونتكريستي، وألقوا بهم في المحيط ليغرقوا وأيديهم وأقدامهم مقيدة، بعد جرحها لجذب أسماك القرش. حتى المواطنون الدومينيكان ذوو البشرة السمراء كانوا ضحايا المجزرة العرقية.


أما عن مسلسل قتل النساء، فالموضوع يحتاج مجلدات، في الأرجنتين مثلا تم اختطاف وتعذيب وقتل نحو 30 ألف امرأة خلال الحكم العسكري (1976- 1983)، وألقيت معظمهن من الطائرات في البحر أو في نهر «بليت». في منطقتنا، كانت آخر جريمة، قتل طفلة في محافظة الحسكة بسورية عمرها 13 عاماً، بحجة «شرف العائلة».


ما يؤلم حقاً، أن تلك المذابح، وغيرها منسية تماماً، وضحاياها منسيون.. والمجرمون عاشوا وماتوا ولم يُحاكموا، ولم ينالوا عقاباً.. فمثلاً مات قبل أيام وزير الدفاع الأميركي الأسبق رامسفيلد، عن 88 عاماً، دون محاكمة كمجرم حرب، تسبب في مقتل مئات آلاف العراقيين.
تاريخ البشر، وحاضرهم، مليء بالظلم، والاضطهاد، والمذابح، والعنصرية.. ما نريده عالماً دون قتل، أو على الأقل لا نشهد فيه تبريراً للقتل، أو دفاعاً عن القتلة.