ثمة شخص ما قرر أن 9 آب (أول من أمس) هو بالضبط الوقت المناسب كي يسوق للإعلام الإسرائيلي تغييراً في الوضع الراهن المتبع في الحرم. كتب المراسلون بحماس عن ثورة هادئة تتحقق بالتدريج في الحرم: اتباع نصاب الصلاة الثابت لدى اليهود، بحماية الشرطة، في المكان الذي تم فيه بصورة مشددة طوال عشرات السنين منع اليهود من الصلاة، وبالتأكيد الصلاة الجماعية. استمرت عملية التغيير سنتين تقريباً، وقد نشر عنها في السابق بصورة جزئية في بعض الأماكن في الماضي، لكن من المعروف أن الإعلان في «أخبار 12» له تأثير مختلف.
هذا الصباح (أول من أمس)، عندما قام مئات اليهود بالحجيج إلى الحرم، ومنهم أعضاء كنيست من حزب يمينا، حدثت مواجهات عنيفة بين المصلين المسلمين ورجال الشرطة. في أحد الأحداث تضررت قاعة صلاة إسلامية. في وسائل الإعلام الفلسطينية أبلغ عن عشرات المصابين، بسبب استنشاق الغاز المسيل للدموع ومن هراوات الشرطة. في «حماس» وفي الجناح الشمالي للحركة الإسلامية في إسرائيل انتظروا هذه الفرصة. الأحداث التي لم تكن شدتها مرتفعة بشكل خاص، وصفت كأنه وقع في الحرم معارك حقيقية. الحضور اليهودي في الحرم تم إبرازه بشكل خاص.
رئيس الحكومة، نفتالي بينيت، تابع الأحداث عن كثب، بالأساس بسبب التقارب الزمني مع عيد الأضحى الإسلامي والذي يتوقع أن يجلب إلى الحرم آلاف المصلين المسلمين. بتوجيه من بينيت استعدت الشرطة مسبقاً لهذه الأحداث. وقد أشرف على ما يجري في الحرم قائد منطقة القدس في الشرطة والمفتش العام للشرطة ووزير الأمن الداخلي. 1679 يهودياً حجوا، أول من أمس، إلى الحرم حتى ساعات الظهيرة، وخرجوا منه. وفي الحكومة كانوا راضين عن أنه رغم التغطية الواسعة في وسائل الإعلام العربية إلا أن الأمور لم تخرج تماماً عن السيطرة.
بينيت، الذي كان راضياً، سارع إلى إصدار بيان. أعلن مكتبه أن رئيس الحكومة شكر الوزير عومر بارليف والمفتش العام للشرطة، كوبي شبتاي، «على إدارة الأحداث في الحرم بمسؤولية وعقلانية، من خلال الحفاظ على حرية العبادة لليهود في الحرم. وأكد رئيس الحكومة على أن حرية العبادة سيتم الحفاظ عليها بشكل كامل أيضاً للمسلمين، الذين سيحتفلون في الأيام القريبة بيوم عرفة وعيد الأضحى».
لكن البيان الذي نشره المكتب انحرف بدرجة ما عن الخط السياسي المعلن لإسرائيل حتى الآن؛ فعلياً أعطى شرعية أخرى لوصف التغييرات التي بدأت على الأرض. يبدو أن هذه هي المرة الأولى التي يتطرق فيها رئيس حكومة إسرائيلية بصورة صريحة وببيان رسمي إلى الحفاظ على حرية العبادة لليهود في الحرم. عدد من الخبراء الذين يتابعون منذ سنوات ما يجري في الحرم قالوا للصحيفة: إن رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، كان حذراً خلال فترة ولايته من إصدار تصريحات مشابهة (رغم أن الوزراء السابقين للأمن الداخلي، عضو «الليكود» جلعاد أردان والعضو أمير أوحانا، تطرقا أحياناً إلى التغييرات في الوضع الراهن).
إضافة إلى ذلك، في تشرين الأول 2015 وبعد أزمة مع الأردن والولايات المتحدة على خلفية أحداث وعمليات «إرهابية» كثيرة في القدس وفي الضفة الغربية، أصدر مكتب نتنياهو بياناً جاء فيه أن إسرائيل تلتزم بالوضع القائم، وهي ستواصل تطبيق سياستها التي بحسبها «المسلمون سيصلّون في الحرم وغير المسلمين يزورونه» (أي لا يصلّون). نسقت صيغة البيان في حينه مسبقاً مع الأردن بوساطة وزير الخارجية الأميركي في إدارة أوباما، جون كيري.
في الأشهر الأخيرة منذ انتهاء عملية «حارس الأسوار» في قطاع غزة، عملت إسرائيل والأردن والولايات المتحدة وبدرجة معينة أيضاً السلطة الفلسطينية، من وراء الكواليس من أجل قطع العلاقة التي أوجدتها قيادة «حماس» في القطاع بينها وبين القدس. صيغة بيان بينيت يمكن أن تحرج الشركاء في هذه العملية، بالذات بعد أن نجح في فتح صفحة جديدة في العلاقات مع الأردن، وتمت استضافته لدى الملك عبد الله. كالعادة، عندما يدور الحديث عن القدس فإن الأمور تحدث في توقيت حساس: سيقوم الملك عبد الله بالزيارة الأولى للرئيس الأميركي، جو بايدن، في واشنطن. ومن الأرجح أنه سيُسأل عن ذلك.
هناك أيضاً موضوع «راعم». بينيت خلافاً لنتنياهو يجب أن يتصرف كرئيس ائتلاف أحد الأعضاء فيه هو حزب إسلامي. ليس بالصدفة أن قائمة «راعم» والجناح الجنوبي للحركة الإسلامية، الذي يتماهى معه، قد أصدرا بياناً شديداً يدين «اقتحام عدد كبير من المستوطنين والمسّ بقدسية المسجد الأقصى». الحزب والحركة حذرا أيضاً من أنهما سيدعمان أي محاولة فلسطينية لمنع تغيير الوضع القائم.
هامش مناورة بينيت محدود أيضاً من الجانب الآخر. فرغم أنه هو نفسه لم يظهر أي اهتمام في أي يوم بحجّ اليهود إلى الحرم، إلا أنه لدى جمهوره الديني – القومي حدثت في العقدين الأخيرين انعطافة مهمة، في إطارها زاد عدد المؤيدين لصلاة اليهود في الحرم. مع وجود «الليكود» والقائمة الصهيونية الدينية في المعارضة سيجد بينيت صعوبة في إصدار بيان توضيح يتضمن التراجع عن الصيغة التي نشرها حتى لو غضبت «راعم» والأردن.
بين الحرم وغزة
اليوم حصلنا، مرة أخرى، على تذكير بالسهولة غير المحتملة التي يمكن فيها إشعال حريق جديد في الحرم. حتى لو كان في هذه المرة يبدو أن الشرطة نجحت في إطفائه بسرعة. الموقع ذاته سبق أن وفر أعواد الثقاب في مرات كثيرة في السابق، منها المواجهة الأخيرة في غزة.
أصدرت «حماس» حتى الآن ردّاً منضبطاً نسبياً على الأحداث في منطقة الحرم. ربما يكون هذا مرتبطاً بالرغبة في اجتياز عيد الأضحى بسلام بعد أن جاء العيد السابق، عيد الفطر، في ظل القتال قبل شهرين. ولكن في قيادة «حماس» في غزة تسود عصبية إزاء الصعوبات التي تضعها إسرائيل على إرسالية الأموال النقدية الشهرية من قطر.
بعد عملية «حارس الأسوار» أعلنت إسرائيل عن تغيير قواعد اللعب بخصوص الدعم القطري. حكومة بينيت – لابيد التي ورثت الآن حكومة نتنياهو، تطالب بأن يتم من الآن مرور الدعم بشكل منظم نسبياً من خلال الإشراف الدولي، وليس في حقائب نقدية مثلما وافقت الحكومة السابقة على القيام به من أجل شراء هدوء مؤقت في القطاع قبل ثلاث سنوات.
التسوية الجديدة ما زالت تتبلور، بتعاون من قطر ومصر. إسرائيل غير منفعلة جداً من الشريك القطري، الذي أسهم في التصعيد الأخير، مثل سابقيه، من خلال بث مثير في قناة «الجزيرة»، معروف جيداً. ولكنها لا تستطيع السماح لنفسها بالتنصل منه تماماً. الأموال ستواصل التدفق.
في هذه الأثناء يدور الحديث عن 25 مليون دولار في الشهر، 8 مليون منها لشراء الوقود (المبلغ يرتفع ويهبط حسب أسعار السوق)، 10 ملايين للدفعات للعائلات المحتاجة (100 دولار للعائلة) و7 ملايين دولار رواتب لعشرات آلاف الموظفين الذين في معظمهم هم موظفون في حكومة «حماس». القصد هو استغلال آلية قائمة للدعم المالي، تستخدمها الأمم المتحدة. وإضافة إلى ذلك تحويل المساعدات للعائلات المحتاجة بوساطة نوع من بطاقة الائتمان.
يريد بينيت الدمج بين تغيير آلية الدفعات وتسهيلات إنسانية تسمح بتحسين وعلاج البنى التحتية المدنية في القطاع، وإبقاء التقدم في مسألة الأسرى والمفقودين الإسرائيليين الذين يوجدون في أيدي «حماس» (مدنيان على قيد الحياة وجثتان لجنديين) إلى موعد أبعد بقليل. في الأسابيع الأخيرة زادت إسرائيل هامش الصيد الذي تسمح به أمام شواطئ القطاع، واستأنفت الترخيص لدخول الوقود. في الأصل، الإسرائيليون كانوا يأملون في أنه سيكون بالإمكان تحويل الأموال حتى قبل بداية عيد الأضحى. الآن يبدو أن هذا لن يحدث، أيضاً بسبب الصعوبة في التوصل إلى تفاهمات بين جميع الجهات ذات العلاقة.
في إسرائيل قلقون من الردود المحتملة لزعيم «حماس» في القطاع، يحيى السنوار، على الأحداث الأخيرة. حتى الاشتعال الأخير كان الانطباع الذي تولد لدى الاستخبارات هو أنه يمكن تحليل وتوقع خطوات السنوار.. إن ما يقلقه أولاً وقبل كل شيء هو رفاه السكان، كعنصر مؤثر على بقاء «حماس» في السلطة. بعد تصرفه في أيار، فإن الشكوك تتزايد. بالنسبة لإسرائيل اعتباراته هذه المرة تبدو مختلفة تماماً.
قبل شهرين تقريباً اختار السنوار استغلال التوتر في القدس وإشعال مواجهة عنيفة في القطاع. وقد راكم بذلك مكاسب سريعة على صورة ارتفاع في التأييد له ولـ «حماس» في شرق القدس وفي الضفة الغربية وحتى في أوساط العرب في إسرائيل. في الوقت الذي يحصي فيه الجيش الإسرائيلي نجاحاته في المعركة، فإن السنوار تكفيه صورة الشخص الناجي التي عززها في نهاية القتال عندما التقطت له صورة وهو يجلس على الأريكة في المكتب الذي دمر في قصف سلاح الجو. ربما الهدوء في غزة سيتم الحفاظ عليه في أيام العيد، لكن لا يوجد في هذه الأثناء أي ضمان بأنه سيتم التوصل إلى وقف ثابت لإطلاق النار بعيد المدى.
عن «هآرتس»