يعاني النظام السياسي الفلسطيني من أزمة داخلية عميقة لم تعد خافية على أحد، ولم تكن قضية مقتل الناشط نزار بنات وما تبعها سوى أحد مظاهر هذه الأزمة، ولعل مردّ ذلك يكمن في أسباب عديدة تراكمت على مدار عقود، من أبرزها:
أولاً – فشل العملية السياسية التي انطلقت منذ بداية التسعينيات، وراهنت على حل وسط، عبر المفاوضات تحت عنوان “حل الدولتين”، وانتهت إلى حالة تطرّف عنصري شامل في المنظومة الإسرائيلية، واختلال في ميزان القوى، وتعمّق الاحتلال والتطهير العرقي الإسرائيلي، في منظومة أبارتهايد وتمييز عنصري شامل لكل مكونات الشعب الفلسطيني. وبالتالي، نشوء فشل برنامجي لما اعتمدته منظمة التحرير منذ الثمانينيات، وراهنت عليه عبر اتفاق أوسلو وغيره.
ثانياً – فشل كل محاولات، ووساطات، ومبادرات، إنهاء الانقسام الداخلي الذي تكرّس منذ عام 2007، بوجود سلطتين متنافستين تحت الاحتلال، على أرضية تناقض سياسي وخلافات برامجية في الساحة السياسية.
ثالثاً – التراجع الخطير والمتواصل للديمقراطية الداخلية، خصوصا بعد قرار إلغاء الانتخابات التشريعية والرئاسية الفلسطينية، على الرغم من مرور أكثر من 15 عاما على آخر انتخابات فلسطينية، وما أدى إليه من مسّ بالحريات العامة، والحق في حرية الرأي والتعبير، وعودة ظواهر الاعتقال السياسي، والاعتداء على المتظاهرين.
رابعاً – الفشل في بلورة آلية للشراكة الديمقراطية كضرورة أساسية للتعدّدية السياسية في الساحة الفلسطينية، سواء على مستوى قيادة النضال الوطني، أو إدارة العمليات السياسية، أو إدارة السلطة، أو إصلاح منظمة التحرير لتكون البيت الجامع والممثل لكل المكونات الفلسطينية.
هذا إضافة إلى تعمق أنماط التعصب الحزبي والفئوي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية للفئات الفقيرة ومحدودة الدخل، والغضب الشعبي العميق على غياب العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، وسيادة القانون، وانتشار مظاهر المحسوبية والواسطة… إلخ.
هناك أزمة عميقة، لم يعد ممكنا إنكارها أو التستر عليها، يستغلها أعداء الشعب الفلسطيني والمتقاعسون عن دعم قضيته العادلة على حد سواء. إذ تستخدمها إسرائيل لإضعاف الفلسطينيين، وإبقاء الخلل في ميزان القوى، كما تستثمر مظاهرها لتشويه صورة الفلسطينيين. ويتذرّع بها العاجزون عن إجبار إسرائيل على احترام القانون الدولي، والتوقف عن جرائم الحرب التي تواصل ارتكابها ضد الشعب الفلسطيني. وفي حين توحد المقاومة الفلسطينية، بكل أشكالها، مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج والأراضي المحتلة، كما تجلّى في معركة القدس، يستمرّ الانقسام والصراع بين القيادات الفلسطينية العاجزة عن الارتقاء إلى مستوى الوحدة التي تصنعها الجماهير الشعبية في نضالها ضد الاحتلال. وهناك خطورة بالغة لاستمرار الأزمة السياسية الداخلية، وتأثيرها السلبي على الفرص التي تُفتح أمام الشعب الفلسطيني لعزل الاحتلال ونظام الأبارتهايد العنصري وتعريتهما، ولتعزيز الصمود الوطني في وجه محاولات التهجير والتطهير العرقي.
لا يمكن الخروج من هذه الأزمة التي استفحلت إلا بتحقيق أربعة أهداف: أولاً، التوافق على برنامج كفاحي مقاوم للاحتلال والاستيطان والمشروع الصهيوني بديلا للنهج الذي فشل، يركز على تطوير عناصر استراتيجية فعّالة لتغيير ميزان القوى لصالح الشعب الفلسطيني، عبر تعزيز الصمود الوطني، وتوسيع المقاومة الشعبية وحركة المقاطعة، وتوحيد مكونات الشعب الفلسطيني ونضالها نحو هدف موحد.
ثانياً، بناء منظومة ديمقراطية داخلية تعتمد مبدأ الشراكة الديمقراطية واحترام رأي الشعب الفلسطيني. وذلك عبر الإعلان الفوري عن إجراء انتخابات ديمقراطية تشريعية، ورئاسية، وللمجلس الوطني الفلسطيني، ويشمل ذلك ليس فقط انتخاب أعضاء المجلس الوطني في الداخل (من خلال انتخاب أعضاء المجلس التشريعي)، بل كذلك أعضاء المجلس الوطني في الخارج، بآلية تجمع بين الانتخاب المباشر حيثما أمكن والانتخاب غير المباشر عبر الهيئات التمثيلية للفلسطينيين أينما وجدوا. ويتبع ذلك تشكيل قيادة وطنية فلسطينية موحدة على أساس نتائج الانتخابات الديمقراطية، تضمن مشاركة الجميع في هذا الإطار الجبهوي الذي يجب أن يكون مسؤولاً عن القرارات السياسية والكفاحية الموحدة. والمدخل الصحيح لهذه العملية إطلاق حرية الرأي والتعبير والتحريم الكامل لكل أشكال الاعتقال والقمع والاستدعاءات السياسية، والتوافق على ما اقترح سابقاً بإجراء الانتخابات في القدس مثل سائر أرجاء الأراضي المحتلة، من دون انتظار موافقة الاحتلال الذي يجب أن لا يمنح حق الفيتو على إجراء الانتخابات من خلال منعها في القدس، وقد أثبت شباب القدس وأهلها البواسل أن من الممكن جعل الانتخابات فيها معركة مقاومةٍ شعبيةٍ ظافرة.
ثالثاً، تغيير وظائف السلطة، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة، بحصرها في تسيير الأمور الحياتية، وإعادة مركز الثقل السياسي إلى منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها الموحدة بعد إصلاحها، وإلغاء كل ما يتناقض مع البرنامج الوطني الكفاحي، بما في ذلك عقيدة التنسيق الأمني، وتشكيل حكومة وحدة وطنية لتسيير أمور السلطة على أساس نتائج الانتخابات الديمقراطية.
رابعاً، إعادة بناء العلاقات الفلسطينية مع قوى التحرّر والتقدم العربية والعالمية، بما يخدم تطوير حركة تضامن عربية وعالمية واسعة مع النضال الفلسطيني، بكل مكوناته وفي كل الأماكن.
وما من شك في أن لدى الكثيرين، وخصوصا من النشطاء السياسيين، والشباب منهم تحديداً، مقترحات أخرى كثيرة يمكن إضافتها إلى هذه الرؤية، لكن الخروج من أزمة النظام السياسي الحالية لا يمكن أن يتم من دون تحقيق الأهداف الأربعة المقترحة. ولن يفيد أحداً التمسّك بسياسات الماضي التي فشلت، كما أنه ليس من صالح أي حزبٍ أو تنظيم مهما كان حجمه، أو تميز تاريخه، ادّعاء القدرة على قيادة الساحة الفلسطينية منفرداً، أو التهرّب من واجب إلغاء أنماط التفرّد، والتعصب الحزبي، وسد الطرق أمام الطاقات الشابة.
لسنا في حاجة لحوارات كثيرة، ولن تنجح أي حوارات، إلا بعد إقرار المبادئ المذكورة للخروج من الأزمة، وإظهار نية صادقة لتطبيقها. وهناك من تجارب الشعوب في منطقتنا، وخارجها، ما يكفي لتأكيد أنه لا حل للأزمة السياسية الداخلية عندما تستفحل سوى الأسلوب الديمقراطي، وخصوصا عندما تتفاعل هذه الأزمة في حياة شعب ما زال تحت الاحتلال، والحصار، ويتعرّض لمؤامرات ودسائس لا أول لها ولا آخر، ولن يمكن مقاومتها إلا بصلابة الجبهة الداخلية وتماسكها، وبالاستناد إلى إرادة الشعب نفسه الذي لم يعد قادراً ولا مستعدّاً للتعايش مع هذه الأزمة ومظاهرها.