أسفرت الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي جرت خلال العام عن فوز قاضي القضاة الإيراني إبراهيم رئيسي، الذي تعتبره مصادر غربية محافظاً ومتشدداً في توجهاته السياسية، وجاءت تلك النتيجة بعد أن تم استبعاد عديد من المرشحين الآخرين بتوجهات أكثر وسطية في الساحة الإيرانية، ومنهم من تولي مناصب قيادية في منظومة الحكم التنفيذية والتشريعية.
ومن أول الموضوعات على مائدة الرئيس الإيراني الجديد ستكون المفاوضات الجارية بين الدول دائمة العضوية الخمس في مجلس الأمن وألمانيا مع إيران حول استئناف الاتفاقية النووية التي وقّعت عام 2015 تحت اسم التحرك الشامل المشترك (JCPOA)، وستعتبر قراراته بشأنها مؤشراً لتوجهات المنظومة الإيرانية في المرحلة المقبلة، لذا سلطت أضواء كثيرة على ما ذكره رئيسي خلال مؤتمره الصحافي الأول بعد الانتخابات، وعلى وجه التحديد تأكيده ألا مجال على الإطلاق لموافقة إيران على الحد من برنامجها لتطوير الصواريخ الباليستية أو نشاطاتها السياسية الإقليمية والدولية، وهي قضايا كان قد تم إغفالها في الاتفاق الأصلي، وانصبّ عليها كثير من الانتقادات التي وجهت حينذاك، بما في ذلك مني شخصياً، خلال محادثة سابقة مع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، وكرّرها عديد من الدول العربية الخليجية.
وأعتقد أن المفاوضات اقتربت من مراحلها النهائية بالنجاح أو الفشل بعد أن عبر عدد من المفاوضين الروس والإيرانيين عن أن الاتفاق أصبح وشيكاً على الرغم من استمرار وجود اختلافات حول بعض النقاط الحساسة، وصدرت تصريحات من وزير خارجية إسرائيل بأن لديها تحفظات على سير المفاوضات، ثم فوجئنا، تزامناً مع انتهاء الانتخابات الرئاسية الإيرانية، بتسريب أخبار بأن الولايات المتحدة تعتقد أن القضايا التي تثار مؤشر على التشدد في المواقف الإيرانية، وهو ما يضع هذا الجهد بأكمله على المحك، بل صدر تحذير مباشر من بايدن بأنه لن يسمح لإيران أبداً بحيازة الأسلحة النووية، وآخر من وزير الخارجية بلينكن بأن المهلة المحددة للمفاوضات اقتربت على الانتهاء، دون الإفصاح إذا كان ذلك لاستمرار إيران في تطوير قدراتها النووية، بخاصة في مجال تخصيب المواد المشعة الضرورية لصنع الأسلحة النووية، أم أنه لاقتراب دخول الولايات المتحدة في المراحل الأولى من انتخابات الكونغرس المرتبطة بمجلس النواب، ورغبة بايدن تجنب أن يكون لهذا الاتفاق أو فشل المفاوضات محل الصدارة في الجدل الحاد الذي يصاحب تلك الانتخابات، وخصوصاً أن أمامه أجندة اقتصادية ضخمة ومهمة يريد المضي فيها، لتجنب نجاح أعوان دونالد ترمب الجمهوريين والرئيس السابق نفسه في ريمونتادا سياسية خلال انتخابات 2022 و2024.
وعلى الرغم من التصريحات المتبادلة وما تحمله من تحذيرات وتهديدات، واستهداف الولايات المتحدة لعدد من المواقع في سوريا بحجة أنها مدعومة إيرانياً وتهدد القوات الأميركية. ما زلت أعتقد أن أطراف “الاتفاق النووي 5+1” وإيران، تسعى بجدية للتوصل إلى اتفاق، وهي رغبة بايدن أميركياً وعلي خامنئي إيرانياً الذي يوجه رئيسي، والبلدان يريان أن خيار الاتفاق أفضل من الفشل، وأن عوائده أهم على المدى القصير من أضراره، على الرغم من أنهما مختلفان في توجهاتهما السياسية على المدى الطويل.
ويلاحظ أن رئيسي لم يتعرض أو يتحفظ على الاتفاق ذاته، بما يعتبر بمفهوم المخالفة تأكيداً ضمنياً على موافقته على بنود الاتفاق الأصلي، وهو نفس موقف الدول الست الأخرى، ومن هنا يبرز توافر أرضية واسعة لاستئناف الاتفاق، حيث تركز المفاوضات الجديدة على آليات اتخاذ كل طرف خطوات متوازية ومتدرجة للعودة، مع اتخاذ خطوات لبناء الثقة حول المرحلة المقبلة، مثل الإفراج عن المحتجزين من البلدين، بل لعل المشكلة الأكثر صعوبة الآن هي تمسك إيران بالحصول على ضمانات دولية من مجلس الأمن بعدم انسحاب الولايات المتحدة أحادياً من الاتفاق مرة أخرى، وفقاً لما فعله ترمب، علماً بأن بايدن لن يستطيع الموافقة على إصدار قرار يتجاوز الموافقة على الاتفاق على غرار ما فعله المرة الأولى، حتى لا يظهر ضعيفاً، خاصة في ظل تعارض هذا مع الممارسات الأميركية التقليدية، التي تمكن كل رئيس من اتخاذ القرارات التي يراها، بما في ذلك الانسحاب من الاتفاقات، غير مقيد إلا بالحصول على موافقة الكونغرس إذا كان قد صدّق عليها مسبقاً.
ويجب عدم إغفال أن إيران كانت قد قبلت في اتفاق 2015 بالتزامات تتجاوز ما تتضمنه المعاهدة الدولية لعدم الانتشار النووي، مقابل تحقيق هدفين رئيسين، أولهما أن يتم التعامل مع إيران باعتبارها دولة إقليمية ذات وزن وأهمية مميزة، وهو ما أقرت بها تلك الدول ضمنياً بتوصلها لاتفاق من دون وضع أي قيود على ممارسات إيران الإقليمية، التي تحمل في طياتها تجاوزات كثيرة، وهذا في حد ذاته مبرر للعودة إلى الاتفاق من جانب إيران.
أما الهدف والمبرر الثاني لإيران فهو أن رفع العقوبات المفروضة عليها وقيام عدد من الدول بالإفراج عن المبالغ المحتجزة لديها، التي تتجاوز حالياً 36 مليار دولار أميركياً، و20 مليوناً لدى الصين التي تستكمل الآن اتفاقاً جديداً مع إيران لاستثمار 400 مليار دولار على مدى 25 عاماً، ومليار دولار لدى لوكسمبورغ و7 ملايين لدى كوريا الجنوبية، هي موارد تفيد الاقتصاد الإيراني وترفع الحرج الداخلي من النظام، كما أنها ستساعد على تمويل عدد من النشاطات السياسية الإقليمية الإيرانية، إذا لم تضع لها حدوداً في الاتفاق المستأنف، علماً بأن ميزانية الحرس الثوري الإيراني تصل إلى 6 مليارات دولار، وميزانية نشاطاتها في سوريا واليمن والعراق لا تتجاوز 305 مليارات دولار وملياري لسوريا و750 مليوناً لـ”حزب الله”، و100 مليون لجماعات فلسطينية، وفي حدود 200 مليون للميليشيات الشيعية في العراق.
غني عن القول إن احتمالات فشل المفاوضات قائمة، فمع حساسية المفاوضات تظل هذه الاحتمالية واردة حتى اللحظات الأخيرة، والمتابعة الدقيقة واجبة، فاستئناف الاتفاق النووي أو فشل المفاوضات سينعكسان على التصرفات الإقليمية في الشرق الأوسط وعلى المصالح العربية، ولعلها فرصة لتجهيز مواقف وطلبات عربية محددة تمهيداً لحوارات صريحة وتفصيلية مع إيران تقودها بأشكال مختلفة مصر والسعودية وعمان والكويت.
* وزير الخارجية المصري السابق .