عن العلمانية

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

مصطلح «العلمانية» واحد من أكثر المصطلحات إثارة للجدل، وربما أكثرها تعرضاً للتشويه والتأويل، بتفاسير متعددة ومتناقضة، أغلبها يربط العلمانية بالكفر، أو بالإلحاد، أو بالفسوق، أو بوصفها تياراً تغريبياً، يسعى إلى نشر الرذيلة في المجتمعات وتفكيك الأسرة.
وفي المقابل هناك من يرى في العلمانية نقيض التعصب الديني والطائفية التي ابتليت بها المجتمعات العربية، وأنها الحل العقلاني الذي حرر أوروبا من سطوة الكنيسة وتخلف الكهنوت، ونقلها إلى عصر النهضة..
ما عزز من هذا الارتباك تجاه مفهوم العلمانية أنّ المواطن العربي لم يتعايش معها، ولم يجرّبها، فكلّ ما يعرفه عن العلمانية هو محصلة ما سمعه من الدعوة الدينية ضدّ العلمانية، ونتاج عشرات الفتاوى الشرعية بتكفير العلمانيين. حتى أن الكثير من المثقفين العلمانيين يخشون التعبير عن علمانيتهم، أو يتحدثون عنها بشكل موارب.
ونظراً لتعدد تعريفات العلمانية، وتعدد الأسس والمعايير المتبعة، وتنوع التجارب العلمانية في العالم، سأتجنب الدخول في هذه المتاهة، لأطرح وجهة نظري الخاصة، والتي لا أدعي لها الكمال.
بداية لنتفق أن العلمانية كنظام ليست معطى ثابتاً، ولا مفهوماً جامداً ومحدداً، بل هي حالة متبدلة ومتحولة ومرنة، مقابل الدين كنظام سياسي، والذي هو عبارة عن نصوص ثابتة، ورموز وتابوهات وتعاليم صارمة، غير مرنة، تكتسب صفة القداسة.
على المستوى الفردي، العلمانية طريقة تفكير ومنهج حياة تجعل من التدين وعلاقة الإنسان بخالقه مسألة شديدة الخصوصية، فقد يكون العلماني مؤمناً ومتديناً وملتزماً بتعاليم الدين، لكنه يدخر الشأن الديني لنفسه، ضمن حيزه الخاص، ولا يسعَ لفرض قناعاته الدينية على الآخرين.
على الصعيد المعرفي تعني العلمانية تحرير العقل من التابوهات، والمطلقات، والتفكير بأسلوب عقلاني منفتح، وغير طوباوي، وما لم يتحقق هذا الشرط تتحول العلمانية إلى أصولية.
على المستوى الجمعي، قد تتآلف شرائح أو فئات اجتماعية معينة، أو مجتمعات صغيرة فيما بينها، بحيث يكون من ضمن هذه المجموعات أشخاص متدينون وملتزمون، وقد تضم أشخاصاً غير متدينين، أو من طوائف دينية متعددة، لكن العقد الاجتماعي بينهم لا يعتمد الدين معياراً، بل الأخلاق العامة، والقيم المجتمعية، وقوانين الدولة، ومواثيق حقوق الإنسان.
على مستوى الدولة، تقوم العلمانية على أساس استبعاد المعيار الديني عن كافة الشؤون المحليّة المدنيّة، والاحتكام لقانون المواطنة. وهنا تقف الدولة موقفاً محايداً من جميع المواطنين بغض النظر عن توجهاتهم الدينية، أو انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، بل تكفل الدولة حرية المعتقد، وحرية التدين، وإقامة الشعائر الدينية، وتمنع أي مجموعة من الاستقواء على أي مجموعة أخرى على أساس ديني أو طائفي أو عرقي.. أي باختصار ضمان العدل والمساواة أمام القانون.
والدولة العلمانية تنظم العلاقة بين الدين ومؤسسات الدولة، بحيث لا تتدخل المؤسسة الدينية في آلية اتخاذ القرار السياسي بشكل مباشر. وبناء عليه، يصبح الاعتقاد الديني مسألة فردية خاصة. فالدولة هنا لا تجبر المواطنين على اعتناق أو تبني معتقد أو دين، ولا تلزمهم باتباع طائفة معينة، ولا تمارس أي سلطة دينية، والمؤسسات الدينية لا تمارس أي سلطة سياسية. فالعلمانية توحّد الشعب استناداً إلى قانون المواطنة، وتضع فارقاً بين حياة المواطن الخاصة (البعد الروحي، القناعات، الفلسفة، الانتماء المذهبي)، وبين حياته كمواطن، دون أن يؤثر ذلك على مواطنته، وحقوقه وواجباته تجاه بلده.
لكن تجارب الشعوب الغربية أفرزت تجارب متباينة في تطبيق العلمانية، فمثلاً فرنسا وتركيا (الأتاتوركية) أجرتا فصلاً تاماً بين الدولة والدين، وحظرتا الرموز الدينية، لدرجة منع الحجاب مثلاً.. وربما كانت تونس البورقيبية كذلك.. وهذه برأيي علمانية أصولية متطرفة خلقت كبتاً للمشاعر الدينية، وأتت بنتائج معاكسة، بحيث خرّجت المشاعر الدينية المكبوتة بأشكال متطرفة. بينما العديد من الدول الأوروبية تبنت علمانية معتدلة، سمحت بالتدين بكل أشكاله، لكن ضمن قوانين الدولة. بينما أميركا مثلاً، نجد فيها حالة تدين كبيرة، وتسمح بكل الرموز الدينية، بل إن الحضور الديني فيها بارز بقوة، حتى في الحياة السياسية والمجتمعية. أما الدول الشيوعية فقد حظرت أي حضور ديني، وقمعته بقوة، ولم تسمح بحرية العبادة.. لذا يصعب وصفها بالنظم العلمانية. فهذه الممارسات تتناقض مع مضمون العلمانية، وبالتأكيد هي ضد الديمقراطية، حتى لو سمّت نفسها كذلك.
أما الأنظمة العربية التي ادعت العلمانية، فهي في حقيقة الأمر نظم شمولية حاولت تجميل صورتها بشعارات علمانية زائفة، بل إنها لم تساهم في دعم الثقافة العلمانية، لأنها تخاف من مبادئها التي تدعم حقوق الإنسان، والحريات العامة، وحرية التعبير، وحق المعارضة، وتداول السُلطة، وقيام مؤسسات مجتمع مدني.. فهذه المبادئ تنسف أسس النظم الشمولية، وتحد من تغول السلطة التنفيذية.
أما قوى الإسلام السياسي فمن المتوقع أن تعادي العلمانية، لأنها ترفض وجود تيارات معارضة، وترفض التعددية، وترفض حرية الاعتقاد، وتصر على حكم المجتمع بحيث تجعله إسلامي التوجّه، أي بتطبيق الشريعة، التي بدورها تتعامل مع الآخر المُختلف وفقاً للإيمان أو الكُفر، الحلال والحرام، وتحصر مبادئ الحرية والمساواة والعدالة داخل الجماعة المؤمنة، أما غير المسلم أو اللاديني فُيعامل وفقاً للحدود التي تبدأ بالتمييز بين المواطنين، وبين الرجل والمرأة، إلى الجزية، وقد تصل إلى حد القتل.
العلمانية الحقيقية لا تعني محاربة الدين، ولا تسعى لإقصائه من الحياة الاجتماعية والثقافية للشعوب، وإنما إخضاع الممارسة السياسية وإدارة الشأن العام للقانون المدني، بعيداً عن أي سلطة تستمد شرعيتها من المقدس. وخلال تاريخها السياسي والاجتماعي لم تُقصِ العلمانية أي تيارٍ أو أي فرٍد، بل كانت المُدافعة عن الحقوق الإنسانية وأولها الاعتقاد الديني.
ختاماً، العلمانية، هي نتاج التجربة الإنسانية، وتعبير عن نضوج تجارب الشعوب السياسية، تحققت بعد نضال مرير وتضحيات جسيمة، عانى خلالها العالم من الحروب الأهلية والطائفية، ومن الاضطهاد باسم الأديان والمذاهب. وبالتالي هي مكسب إنساني وحضاري عام.
اللافت للنظر أن الإسلاميين (حركات وأفراداً) تركوا بلاد المسلمين، حيث الحروب الطائفية، والاضطهاد باسم الدين، واختاروا أوروبا وأميركا (العلمانية)، حيث هناك بوسعهم ممارسة حرية المعتقد، وحرية التعبير، وحرية تنظيم الأنشطة، والندوات، والمؤتمرات، والتظاهر.. ثم بعد ذلك يشتمون العلمانية!