الفلتان الأمني وغياب الأمن الاجتماعي في ظل الحرب ضد الإرهاب

زياد ابو زياد.PNG
حجم الخط

بقلم: المحامي زياد أبو زياد

 

الذي دعاني لكتابة هذا المقال هو تعليق قرأته على أحد مواقع التواصل الاجتماعي يقول كاتبه بأن سبب تفاقم الوضع في الخليل هو عدم مبادرة السلطة لاحتواء المشكلة فور وقوعها وتخاذلها وبطء تعاملها مع الوضع. وأنا لست في موقع الدفاع عن السلطة، ولكني أعترف بأن فجاجة هذا التعليق وميل أمثال كاتبه للطعن في السلطة بمناسبة وبدون مناسبة وبمبرر وبدون مبرر قد استفزني وحملني على الكتابة لوضع الأمور في سياقها الصحيح.

صحيح أن هناك قلق عام نتيجة الشعور في كثير من المناسبات بغياب حكم القانون وما يترتب على ذلك من مساس بالأمن الاجتماعي وشعور المواطن بأنه إذا أردت أن تشعر بالحد الأدنى من الأمان فعليك إما أن تكون مقرب أو موال لبعض مراكز القوى ذات النفوذ الأشبه بنفوذ المافيات التي بدأت تظهر بشكل قوي في البنية الاجتماعية لدينا أو أن تكون ابن عشيرة أو حامولة كبيرة وقد تجد نفسك في جميع الأحوال بحاجة لاقتناء قطعة سلاح إما للردع المسبق، أو لاستعمالها إذا اقتضت الحاجة، أو للتباهي بها في المناسبات.

ولا شك بأن ضعف أداء الشرطة والضابطة العدلية والشعور بفقدان الأمن الاجتماعي له أسباب عدة لا يمكن تفسيرها فقط بتقصير السلطة أو تقاعسها.

عودة الى اتفاق أوسلو الذي قامت السلطة على أساسه نجد أن السلطة كانت نتيجة لهذا الاتفاق مقيدة بعدد محدود من رجال الشرطة رغم أن الرئيس الراحل ياسر عرفات ضاعف هذا العدد ليس رغبة بتحقيق الأمن الاجتماعي في حينه وإنما رغبة في إيجاد فرص عمل للشباب العاطلين عن العمل. ولقد حضرت أحد الاجتماعات التي استهجن فيها أبو عمار أن يكون راتب الشرطي ثمانمائة دولار بالشهر وقال إنه يستطيع تشغيل اثنين بهذا الراتب وتم بالفعل مضاعفة العدد وتخفيض الرواتب للنصف ومع ذلك فإن العدد الذي كان مسموحا به رغم مضاعفته في ذلك الحين لم يكن كافيا للقيام بمهمة حفظ النظام العام وتحقيق الأمن الاجتماعي المنشود ولم يراع فيما بعد النمو المضطرد في عدد الناس والتعقيدات الناتجة عن تطور الحياة الاجتماعية لأسباب مختلفة، وما ينجم عنها من مشاكل لم تؤخذ بالحسبان.

وإضافة لذلك فقد نوقشت أثناء المفاوضات فكرة تشكيل قوة مركزية محمولة يمكن نقلها من مكان لآخر للسيطرة على أية أحداث طارئة وقد وافق الطرف الإسرائيلي على ذلك، ولكنه اشترط عدم تحرك أي مجموعة أو أفراد من هذه القوة من مكان لآخر إلا بالتنسيق مع إسرائيل مع التوضيح بأن كلمة تنسيق تعني الموافقة الإسرائيلية. وهكذا فقد تم تشكيل قوات الأمن الوطني للقيام بهذه المهمة، ولكننا شهدنا حالات وقوع أحداث ومشاكل معينة في مكان ما والحاجة الماسة لنقل هذه القوات من أماكن تواجدها الى مكان الحدث وتباطؤ إسرائيل في التعامل مع طلب السماح بانتقال هذه القوات مما أسهم في تفاقم الوضع. وهكذا فإن النقص في أعداد أفراد الشرطة المنتشرة في المحافظات والعراقيل الموضوعة أمام سرعة انتقال قوات الأمن الوطني من مكان لآخر هي من بين أسباب تدهور الأمن الاجتماعي، ولكنها ليست الأسباب الوحيدة لذلك إذ أن هناك أسباب أخرى أهم وأخطر منها.

فنظرة خاطفة على واقع الحال على الأرض تثبت أن الشرطة لم تنجح في تطوير نفسها واستغلال طاقاتها لفرض القانون والنظام في كل المناطق وليس فقط فيما يعرف بمناطق “أ” التي يفترض أن للسلطة السيطرة الكاملة عليها ليس بالضرورة بسبب تقصير منها وإنما لأنه لم يتم توفير الوسائل والميزانيات إضافة للظروف الموضوعية التي يفرضها وجود الاحتلال. والذي يسير في الشارع ويرى الفوضى في الشوارع وعدم التقيد بأنظمة المرور والسير وعدم احترام الناس للقانون والنظام يلاحظ هذا الفشل بشكل واضح. فالمعادلة في شكلها الأولي هي ذات شقين: شرطة ومواطن فإذا لم يكن المواطن يحترم القانون فإن دور الشرطة هي ردعه وارغامه على احترام القانون إذا توفر لها الجهاز القضائي الذي يوجه عملها ولا شك بأن غياب الشرطة يؤدي تلقائيا الى ظهور الفوضى. وكما قيل: من لا يرتدع بالقرآن يرتدع بالسلطان.

ذلك لأنه، حتى لو كانت الشرطة هي الأداة لمراقبة احترام القانون وتطبيقه فإن الشرطة وحدها لا تستطيع أن تفعل شيئا ً في غياب المنظومة القضائية. لأن الشرطة محكومة هي الأخرى بالقانون وهي التي تقوم على تطبيقه وحين يكون هناك من لا يحترم القانون فإن دور الشرطة والنيابة هو جلبه للقضاء. وإذا كان هناك خلل في القضاء فإن الشرطة لا تستطيع أن تفعل شيئا. ولذا فإن مربط الفرس كما يقولون هو وجود قضاء سليم ونزيه وفاعل. وللأسف الشديد فإن المنظومة القضائية لدينا تعرضت الى هزات وضربات متوالية نتيجة التغاضي عن تطبيق واحترام مبدأ الفصل بين السلطات، وتدخل السلطة التنفيذية في عمل السلطة القضائية مما أضعفها وخلق خللا ً في أدائها أضعف قدرة الشرطة على القياك بواجبها.

وللإنصاف أقول بأن هناك منظومة مسؤولة عن تحقيق العدالة وإنفاذ حكم القانون وهذه المنظومة مرتبط أداء كل من أعضائها بالأعضاء الآخرين. ورأس المثلث في هذه المنظومة هو السلطة التشريعية التي تسن القوانين وتراقب أداء السلطة التنفيذية التي تطبق القانون ومن ضمنها الشرطة ورأس المثلث الثاني هو وجود قضاء يحاسب كل من يخالف القانون أو يعتدي عليه والرأس الثالث لهذا المثلث هو الشرطة والضابطة القضائية. وإذا ما كان هناك خلل في أحد هذه الرؤوس فإن كل المنظومة تكون عرضة للانهيار. فكيف الحال إذا كان الخلل في الرؤوس الثلاثة. هذا هو الحال الذي وصلنا إليه والذي نرى نتيجة له ما يسمى بالفلتان الأمني وفقدان الأمن الاجتماعي والسلم الأهلي وانتشار ظاهرة الأسلحة غير المرخصة ولجوء البعض الى “أخذ” حقوقهم بأنفسهم لعدم ثقتهم بالقضاء ولشعورهم بأن شريعة الغاب هي سيدة الموقف.

وهناك بُعد آخر لا بد من التطرق إليه والذي هو في رأيي بيت الداء. لقد قامت السلطة كسلطة مؤقتة لحين انتهاء المفاوضات في أيار 1999 وإقامة الدولة التي كنا نأمل أن تقوم. وإذ لا أرى مكانا في هذا المقال للحديث عن أسباب عدم إقامة الدولة إلا أنني أود التركيز والتأكيد بأننا منذ فشل آخر محاولات تفاوضية في 2000/2001 تخلينا عن برنامجنا الوطني ودخلنا مرحلة انتقالية انتهت في مطلع عام 2006 وهي ما يسميه البعض مجازا ً بالانتفاضة الثانية، وأصبحنا منذ ذلك العام نتعامل مع الواقع القائم على أساس أنه دولة. وكان هناك من أبدع بالتنظير من خلال الادعاء بأننا دولة تحت الاحتلال وأن كل ما علينا أن نفعله هو الحصول على عضوية الأمم المتحدة وعندها نطالب الأمم المتحدة بإنهاء الاحتلال. وتخلينا بناء عليه عن أي برنامج للمقاومة أيا كان شكلها سلبية، أو سلمية، أو مسلحة أو أي شكل آخر، بل وفي حالات معينة صرنا ضد المقاومة أيا كان شكلها.

وفي ظل هذا التطور نشأت عندنا حالة فريدة حيث تطورت لدينا عقيدة أمنية مبنية على أساس أننا دولة لها امتدادات في الإقليم وفي العالم وبدأنا نقيم العلاقات الأمنية مع أجهزة أمن الدول في الإقليم وفي العالم . وقد أدى هذا التطور الى أن أصبحنا نساهم على الصعيد الإقليمي والدولي فيما يسمى الحرب ضد الإرهاب واندمجنا مع الجو ونسينا أننا نحن أنفسنا ضحية لأبشع أشكال الإرهاب وهو الاحتلال.

ويلاحظ أن هذ الوضع استدعى تلقائيا تخصيص كل الميزانيات والموارد للأمن ولم تحظ الشرطة بنفس القدر من الاهتمام والميزانيات وبالأخص لأن بعض الدول المانحة لا يعنيها الوضع الأمني الداخلي بقدر ما يعنيها الإسهام فيما يسمى بالحرب ضد الإرهاب والذي لديها الاستعداد لتمويله ودعمه.

وأخيرا أقول بأن مواجهة الفوضى والفلتان الذي بات يقض المضاجع يجب أن تكون على رأس سلم أولوياتنا لأنها أساس وجودنا وإذا ما سمحنا لها أن تستمر وتستشري فإننا جميعا دون استثناء سنكون من ضحاياها. ولا شك أن الطريق وعر وصعب ومحفوف بالمخاطر. فالسلم الأهلي ووضع نهاية للفلتان الأمن تقتضي وجود قضاء سليم وفعال وهيبة وسيادة لحكم القانون وهذا يتطلب وجود سلطة تشريعية ووجود شرطة وضابطة عدلية تتوفر لها كل الإمكانيات المادية والبشرية لتتمكن من القيام بمهامها. وكل هذا يتطلب تغيير نمط السلوك الاجتماعي للناس وإفهام كل من تسول له نفسه الخروج على القانون أن هناك قضاء ونيابة وشرطة وأداء سريع وفعال لتطبيق القانون وتنفيذ قرارات المحاكم.

لا أبالغ إذا قلت بأن هذا الأمر هو أشبه بالحلم أو أشبه بالمستحيل، ولكني أومن في نفس الوقت بأنه ممكن وليس بالمستحيل إذا توفرت الإرادة.