تسود البلاد كلها من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها، موجة من العنف غير المبرر، من قبل جهات عدة رسمية وغير رسمية افرادا وجماعات ومنظمات واجهزة. وما علم جميع هؤلاء أنهم يهدرون الحق في الحياة المقدس الذي أورثه رب البشر في البشرية ويخرقون إرادة الخالق، وينشرون فوضى ليس لها قرار.
موجات العنف ليس لها وقت أو زمان أو مكان أو هوية، بل هي متلاحقة في كل الفصول صيفا وخريفا وشتاء وربيعا، وفي كل الشهور المقدسة والعادية، وفي كل الأماكن الجبلية والمنخفضة، تهدر السلامة الجسدية للإنسان وأعضائه، بل وتهدر حقه في الحياة الكريمة بشقيها المعنوي والجسدي وتهدر حق المجتمع الآمن المستقر.
موجات العنف للأسف الشديد، لا تجد من يصدها ويوقفها، إلا شكليا ومرحليا ومؤقتا، عبر بضع كليمات صادرة متأسفة أو مدينة أو رافضة أو واصفة، من جهات متعددة رسمية وغير رسمية، وهي عادة لا توقف ولا تردع ولا تمنع العنف بكل اشكاله، بل العكس حاصل. فموجة العنف بازدياد واطراد. وقطعا ما انفكت جهات عدة في وصف العنف وسفك الدماء لكن أحدا لا يقدم حلا جذريا حاسما لهذه المشكلة التي غدت متجذرة في ربوع الوطن.
علاج العنف في بلدي يتم بطرق تتسم بالعشوائية وردة الفعل والعشائرية والقبلية والغيبية وهي طرق تتعامل بأساليب العصر الجاهلي في زمن القرن الواحد والعشرين. وهو علاج لا يتم بسطر واحد أو ضربة واحدة كما يعتقد البسطاء والدهماء، بل هو علاج متعدد الزوايا والمواضيع ويتصل بعلوم متعددة وتكاملها ولست سيدها. فهو علاج يتصل بالدين والتربية والإجتماع والقانون والأمن والقوة إن لزم الأمر. أما التركيز على فرع واحد من العلوم فهذا الجهل والتقصير بعينه ولن يجدي نفعا ولن يقدم بل سيؤخر.
لا أعلم إن كانت هناك استراتيجية في بلدي أو لجنة عامة من تربويين ورجال دين ورجال قانون وعلماء نفس ورجال أمن لمعالجة العنف على صعيد الوطن أم لا، ويبدو أنها غير موجودة وإن وجدت فهي غير مفعلة اعتمادا من الكثيرين على أساليب العصر الجاهلي، ونبذ وسائل القرن الواحد والعشرين في لجم ظاهرة العنف واستئصالها من جذورها. لا يمكن أن تكون القضية فورة عاطفية أو نفسية أو مادية ثم تقبر الظاهرة الفردية في مهدها. العلاج لا يمكن أن يكون ” دية ” او ما شابه ذلك في زمن التأمين. الحل لا يمكن أن يقرره شخص حاصل على التوجيهية ويحفظ بضع آيات من القرآن الحكيم. الموضوع أوسع من ذلك بكثير. ولا يعلم ابعاد الموضوع ولم يقرأ كتابا واحدا عن العنف والحق في الحياة.
من ملاحظة ما يجري ويمكن وصفه بالغريب والعجيب، أن رجال الأمن الفلسطيني والمحافظين يسيرون في ركب القضاء العشائري بدل أن يقودوه، ولا يملكون رايا ولا حكما بل القول الفصل للقاضي العشائري. يجب ان يراس الأمن الفلسطيني ويقرر الوضع الإجتماعي والأمني بغض النظر عن موقف القضاء العشائري. ويجب أن لا يكون المجتمع رهنا لإرادة القضاء العشائري مهما كانت حكمته وحصافته. وقطعا يغيب القضاء النظامي والديني تغييبا تاما في هذا الموضوع. أما حملة الشهادات فيجلسون صم بكم في سماع اسطوانة مشروخة تندى اللغة العربية تكرر في كل مناسبة عشائرية.
ونظرا لأن الوضع تحت الإحتلال الإسرائيلي وتقسيماته الأوسلوية بغيضة وحساسة ومثيرة للمشاكل فقد وقعت الأجهزة الأمنية الفلسطينية في حيص بيص، بل تراخت عن القيام بواجبها خير قيام. وقطعا هذا الكلام قد لا يعجب البعض ولكن الأحداث الحاصلة في ربوع الوطن الفلسطيني وانعدام الأمن الفردي والجماعي، تؤكد ما يقال. ووقوع الأمن الفلسطيني في قضايا عنفية وقمع للمتظاهرين وسفك دماء كما حصل مع نزار بنات يجب أن يشكل خطا أحمر لعدم التكرار وأخذ العظة قبل فوات الأوان، بل تنذر بعواقب خطيرة قادمة إن ترك الحبل على الغارب وبقيت الأوضاع من دون حزم وردع.
يجب ان تزرع العائلة والمعلم ورجل الدين احترام الحق في الحياة بالطفل منذ نعومة أظفاره ، وذلك بمعناه المطلق كحق اساسي دينيا وقانونيا وإنسانيا وطبيعيا. فليس الحق هذا خاص بالفلسطيني فقط بل لكل إنسان بغض النظر عن دينه أو لونه أو جنسه أو عرقه أو لغته أو ثروته أو أصله الإجتماعي أو منبته أو عمره الحق في الحياة بكل معنى الكلمة. بمعنى له الحق في أن لا تزهق روحه ونضمن حياته وسلامته الجسدية وأطرافه وأعضائه الجسدية والمعنوية. وهو حق دستوري ودولي وداخلي وخارجي بدون أي منازع. تخيلوا أن الإنسان لا يتمتع بهذا الحق الطبيعي الذي ولد معه ولم يكن هبة من أحد سوى الخالق، وتخيلوا أي مجتمع يمكن أن يكون حيث تهدر فيه الحق في الحياة أو عضو من أعضاء الجسد. بل إنني اضيف ما قيمة الحق في حقوق الإنسان الأخرى كالحق في الرأي والدين والمسكن والتنقل والضمان الإجتماعي إذا فرطنا في الحق في الحياة التي هي الركن الأساسي لكل الحقوق العضرية بدون منازع.
يجب التعريف والتثقيف بأن القوانين والأديان والمواثيق تحمي الحق في الحياة وعدم جواز الإنسحاب منه في حالة الطوارىء، مواثيق حقوق الإنسان والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ودساتير الدول جمعاء وقوانينها الداخلية بدون استثناء. وقد اشار القرآن الكريم إلى الحق في الحياة ونهى عن نزعها. فقال في محكم كتابه العزيز ” ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ” ( الإسراء 33 )، ” من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكانما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ” ( المائدة 32 ) ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ” ( النساء 93 ).
كذلك يجب أن تعطى التعليمات والإرشادات والدورات لكيفية استعمال القوة من الأجهزة الأمنية . ويجب أن تكون في اضيق الظروف وفي حالة الضرورة القصوى وأن لا تكون الوسائل الأخرى غير كافية، أو هي للدفاع عن النفس أو لدفع خطر محدق، وللأغراض المشروعة وتنفيذا للقوانين واحكام القضاء، بل الأصل عدم جواز استخدام القوة سواء أكانت نارية او مادية ويجب استبدالها بوسائل بديلة كالتحذير وإطلاق النار في الهواء والصراخ بلغة يفهمها الشخص وإطلاق رصاص مطاطي أو قنابل مسيلة للدموع أو استعمال العصي ، لكن استعمال السلاح الناري غير جائز في كل الأحوال بل محظور حظرا باتا، ودعونا لا نقتدي بالإسرائيليين واستعمالهم المفرط في السلاح الناري ضد الفلسطينيين.
يجب إعادة النظر في العنف الفلسطيني وأسبابه وكيفية التصدي له ومعالجته، وإعادة زرع أفكار وأنماط سلوكية تصده وتحذر منه من خلال الثقافة والمدرسة والجامعة والبيت. يجب إشراك كل من يتصل حقله بالعنف في لجنة أو لجان لدراسة هذه الظاهرة التي ستستفحل في المجتمع الفلسطيني إن لم تكن قد استفحلت. يجب أن يتكامل علم التربية والأمن والقانون والشريعة والفلسفة والإجتماع وغيرها في خلق وسائل تحد من العنف وأن نحد من الوسائل العشائرية والقبلية، فاستمرار هذا النهج سقود للتخلف والتعصب والإنغلاق وتسييس القضاء فالعمل متأخرا أفضل من لا عمل على الإطلاق!!!