افتتح رئيس الحكومة الاسرائيلية، نفتالي بينيت، ظهر يوم الاربعاء الفائت، المقر الرئيسي لوحدة “سيف” لمكافحة الجريمة في المجتمع العربي، والتي سيرأسها اللواء جمال حكروش ابن قرية كفركنا الجليلية. وحضر حفل الافتتاح، كما جاء في الأخبار، إلى جانب رئيس الحكومة، كل من وزير الأمن الداخلي، عوفر بارليف، والمفتش العام للشرطة، كوبي شبتاي، وعدد من كبار الضباط، وفي طليعتهم بالطبع الجنرال حكروش نفسه. ولقد تعهد رئيس الحكومة، بينيت، أمامهم، في خطبة حفلت بطعم التفاؤل، بانه سيعمل على اجتثاث ظواهر العنف من شوارع البلدات العربية، مؤكدًا على أن “هدفه كرئيس حكومة هو أن يعيش جميع المواطنين في دولة اسرائيل بأمان، وأن يعيش أهل الطيبة كما يعيش المواطنون في كفار سابا”.
كم كنت أرغب بتصديق هذا الكلام، خاصة وانه يجيء بعد أن تخطى عدد ضحايا جرائم القتل داخل المجتمعات العربية، منذ مطلع العام الحالي، السبعين مواطنة ومواطنًا؛ ولأنه تضمّن، أيضًا، اقرار رئيس الحكومة المباشر بأن “الاهمال المتواصل، على مدار سنوات طويلة، أدّى الى ارتفاع وتيرة العنف والجريمة في المجتمع العربي والى حالة من عدم السيطرة”، لكنني، وللأسف، أعرف، مثل معظم الناس، أن جهاز شرطة اسرائيل ليس مؤهلًا ولا قادرًا على محاربة ظاهرة استفحال الجريمة داخل المجتمع العربي؛ هذا ناهيك عن قناعتنا، المعمّدة بدم التجارب، بأن الشرطة الاسرائيلية ليست معنية أصلاً “باجتثاث مظاهر العنف من شوارع البلدات العربية”؛ ولو كان عكس ذلك لما عانت مجتمعاتنا وتعاني من حالات هلعها اليومي الحقيقي بعد أن فقدت مشاعر الأمن الفردي ومقوّمات الأمان المجتمعي العام.
قد يبدو كلامي في هذه المسألة مكررًا أو حتى ممجوجًا ولا طائل من ورائه ورغم ذلك لن أيأس؛ فمسألة العنف والجريمة داخل المجتمع العربي هي قضية مركبة ولا يمكن مواجهتها، حكوميًا أو محليًا، من دون تفكيك عناصرها التاريخية والاجتماعية والجنائية، وبداية من دون تغيير نظرة المؤسّستين الأمنية والسياسية الاسرائيليتين تجاه المواطنين العرب وتوقفهما عن معاملتهم وفق فرضيات عمل تخوينية، كانت ولا زالت تشكك في مواطنتهم وتحرمهم من حقوقهم الاساسية والشرعية.
ولكن هذا لوحده لن يكفي؛ فالدولة وإن كانت وستبقى، كما قلنا وأكدنا مرارًا، هي المسؤولة الأولى عن أمن وسلامة المجتمع وأفراده، وعن ملاحقة ومقاضاة الجناة والعابثين بقدسية الحياة وباستقرار الناس، لن تنجح في مهمتها اذا لم تتعاون معها مجتمعاتنا واذا لم تتوقف بعض مفاعيلها ومؤسساتها عن مدّها، في بعض حالات العنف والجريمة، بذرائع تبرر للدولة عدم قدرتها أو قصورها عن مواجهة الواقع أو تواطؤها في بعض الحالات، كما نعرف.
وقد نستفيد اذا استحضرنا تفاصيل ماذا حدث قبل خمسة أعوام فقط، ونقتفي ماذا حصل بعد أن التقى، في منتصف عام ٢٠١٦، كل من محمد بركة، رئيس لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية، ومازن غنايم رئيس مجلس بلدية سخنين ورئيس اللجنة القطرية لرؤساء المجالس العربية في حينه، وطلب الصانع، رئيس لجنة مكافحة العنف في المجتمع العربي، مع روني الشيخ الذي كان يشغل منصب المفتش العام للشرطة الاسرائيلية، علمًا بأن الاعلان عن نيّة جهاز الشرطة باقامة وحدة خاصة لمكافحة الجريمة والعنف في داخل المجتمع العربي وتعيين اللواء جمال حكروش رئيسًا لها، قد تم في ذلك الوقت تحديدًا.
لم يكن صعبًا علينا وقتها التنبؤ بأن الاجتماع مع روني الشيخ واقامة تلك الوحدة الخاصة وبرئاسة لواء عربي، لن يغيروا من تفاقم العنف والجرائم داخل المجتمع العربي، ولن يوقفوا النزف في قرانا ومدننا؛ وعلى الرغم من تقييمي، في حينه، للاجتماع المذكور في تل أبيب على انه “واحد من المبادرات اللافتة والواعدة”، كنت أوضحت، في نفس الوقت، أنني أقول ذلك من باب التمني وأنا أضع “يدي على قلبي”، ونوّهت، حينها، على أن “اجتماعًا يتيمًا واحدًا لن يترك أثرًا، إذا لم تتبعه، على الأقل، لقاءات دورية مع قيادات الشرطة، على أن تكون مسبوقة ومصحوبة بخطط عمل تفصيلية، تعمل القيادات العربية على وضعها، مستأنسة ومستعينة بطواقم خبراء مهنيين ومحترفين؛ لا سيما بعد أن قرأنا بأن الوفد العربي قد واجه قيادات الشرطة بحقيقة تقصيرها في مجابهة موجات العنف وحمّلوها كامل المسؤولية عن الاوضاع القائمة … فبعد تحميل المسؤولية وكشف الأقنعة من المفروض أن نمسك المحاريث ونتحضر لمواسم الزرع عسانا ننعم بجنى بيادرنا، أو، على الأقل، من أجل سلامة أبنائنا”.
لا يعقل ألا يكون رئيس الحكومة بينيت على علم بتفاصيل تلك الجلسة، أو أن يجهل وزير الأمن الداخلي الحالي ماذا كانت مخرجاتها وكيف ومن تابع تنفيذها؟ فمن دون أن نسمع منهم، أو من اللواء حكروش، تقييمًا مهنيًا جدّيًا لما قاموا، أو لم يقوموا به، خلال الخمسة أعوام المنصرمة، لن يكون لما قاله بينيت مؤخرًا أي وزن ومعنى؛ ولا كيف سيضمن تنفيذ وعيده المعلن بأن وحدة “السيف” الشرطية الجديدة ستنزل ضربتها الموجعة للعنف بالوسط العربي وتفرض بكل قوة النظام والامن لكل طفل وعائلة عربية؟
لا أعرف اذا هنأت وقتها القيادات العربية اللواء حكروش على منصبه؛ ولا اذا بادرت الى عقد لقاءات عمل جدية معه، كما وعد طلب الصانع في حينه؛ أو اذا هو بادر لمثل تلك الاجتماعات، وماذا كان قد حصل فيها؛ ولا أعرف اليوم كيف ستتصرف هذه القيادات مع وحدة “سيف” لمكافحة الجريمة في المجتمع العربي، التي سيرأسها نفس اللواء حكروش! فهذا المشهد كان وما زال يشكل للكثيرين من القيادات الحزبية والحركية السياسية معضلة جدية، ويثير لديهم عدة تساؤلات تتعلق باشكالية ثنائية وجودنا المواطني والوطني في “الدولة اليهودية”. فكيف يمكن أن يجلس محمد بركة ابن شفاعمرو، ومازن غنايم ابن سخنين، وطلب الصانع ابن النقب، ومنصور عباس ابن الحركة الاسلامية، مع اللواء حكروش ابن كفركنا، لمناقشة ضرورة تغيير نهج وعقلية الشرطة الاسرائيلية في التعامل مع المواطنين العرب ودراسة شروط استعادة ثقتهم بها وثقتها بهم؛ كما صرح في حينه طلب الصانع ؟ وكيف سيتلقى المواطن العربي العادي تبعات هذه الحالة الشاذة ؟ وهل من الممكن أن يُقفز عن هذه العقبة من أجل مواجهة الجريمة والعنف؟ واذا لا يعقل، فما العمل؟
سننتظر وسنرى ؛ والى ان يجد مجتمعنا الوىسائل لتخطي تلك العتبات، على أولي الرأي والنخب القيادية ألا تكف عن دق جميع أبواب الدولة وحثها على تحمّل مسؤولياتها في مواجهة العنف والجريمة، وملاحقة الجناة أو فضحها اذا لم تفعل. وعليهم كذلك ان يعترفوا بحصص مجتمعاتنا من بعض انواع العنف والجرائم التي تغذيها بعض مفاهيم موروثنا الثقافية، وقيمنا الاجتماعية المتوالدة في دفيئات قبلية، عائلية، اقتصادية، نفعية، مريضة وخطيرة. وكيلا يساء فهمي فأنا لا ولن أعفي جميع مؤسسات الدولة من مسؤولياتها عن جميع مظاهر العنف وعن هذه الجرائم، وخاصة ما يجري في عالم الجريمة المنظمة؛ ولكنني أؤكد أن مسؤولية “العقل العربي” المؤمن بحتمية التسيّد الذكوري المطلق ، والداعي إلى ممارسة دور الخفر على “شرف النساء” والتجبر في حكم العائلة، ستبقى هي من أهم المسببات لارتكاب الجرائم في هذا الفرع من فروع الجريمة، الذي يحظى في كثير من الاحيان بمساعدة المجتمعات المحلية، مما يؤدي الى عدم ملاحقة الجناة ولا ضبطهم. وأؤكد، أيضًا، على أن العصبة العائلية النفعية تحمي أحيانًا، بعض السفهاء والسفلة والبلطجيين، وتدعم تسيّبهم ورعونتهم وتطاولاتهم على “الآخرين” وعلى الحيّزات والمؤسسات العامة؛ وهي، لذلك، المسؤولة عن العنف والجرائم المرتكبة في هذا الفرع من فروع الجريمة.
لن استرسل أكثر في هذه القضية رغم أهميتها، وسأعود إلى البداية؛ فحتى لو نجحنا باقناع بينيت وحكومته بأن انتشار الجريمة بين المواطنين العرب لن يصب في صالح دولة اليهود، بل على العكس تمامًا، وبأن خطته، كما شرحها أمام ضباطه ووسائل الاعلام هي فكرة ناقصة وفاشلة، لن تستطيع الحكومة وحدها مواجهة العنف وايقاف عمليات القتل داخل المجتمع العربي. فمن دون تفكيك صحيح وجريء لجميع عناصر واسباب ظواهر العنف وانتشار الجريمة وعمليات القتل في مواقعنا، لن نتقدم نحو مستقبلنا الآمن؛ ومن دون تسمية العناوين المسؤولة عن تغذية هذه الظواهر، أو من دون التوقف عن مداهنة بعض تلك العناوين أو التستر على المتواطئين معها، لن تبرأ مجتمعاتنا، بل ستزداد أوجاعنا من يوم إلى يوم.
فإذا كان الاجتماع مع المفتش العام للشرطة، والوافد إلى منصبه من كرسيه السابق في جهاز المخابرات العامة، ضروريًا ومباحًا، فلماذا لا يسعى القادة، كما اقترحت عليهم في الماضي، إلى وضع خطة شاملة للعمل مع ومقابل جميع من يقف على رأس أجهزة الحكم الفعلية في الدولة، لا سيما من لهم تأثير مباشر على حياتنا ومستويات معيشتنا، مثل: المستشار القانوني للحكومة، رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية، رئيس جهاز الأمن العام، المدعي العام للدولة، ومن مثلهم في ذلك المقام؟ لكن المشكلة أننا لن نستطيع التعاطي مع هذه الخيارات بمنهجية وعلم ومهنية، قبل أن يحدد سياسيونا بدايةً علاقة أحزابهم مع هذه الأجهزة وما موقفهم منها وما يريدونه، خاصة ومعظم قياديينا يصفونها بالمعادية ويطالبون بتحريمها وعدم التعاطي معها.
مضت خمس سنين منذ كتبت “لنا في كفركنا لواء”، ولم يتراجع العنف ولا القتل في شوارعنا. حكومات ولّت وحكومة جديدة، تقف على ساق عربية، جاءت، وما زلنا نواجه “سيف” نفتالي بينيت وصحبه، ونواجه ذات الاسئلة والمعضلات : فما العمل؟ ومن سينقذنا من حالات الشذوذ هذه ؟