الممنوعات في مدارس البنات

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

نشرت الناشطة الحقوقية المحامية فاطمة عاشور من غزة إعلاناً مدرسياً يحدد الزي المسموح به، حيث جاء فيه:
«الزي المدرسي المسموح به فقط الجلباب، قماش كحلي أو أسود، دون زركشات، ويمنع ارتداء جلباب الجينز، الشالة لون أبيض دون زركشات، البنطلون تحت الجلباب طويل ولا يظهر رمانة القدم، الحذاء أسود أو أبيض أو كحلي، البف ممنوع».
وعلقت قائلة: في كل سنه تُكرر المدارس نفس القصة؛ لبس الطالبات، وشعر الطالبات، وجزم الطالبات، وإيشارب الطالبات.. ولكن ولا مرة اهتمت المدارس بحملة لمنع تزويج القاصرات، ولا حرمانهن من الميراث، ولا سن الحضانة، ولا حق الطالبات في الاختيار، ولا حق الطالبات في الحرية.. هذه كلها مواضيع غير مهمة! المهم أن يلبسن جميعهن نفس الجلباب ونفس اللون، دون اعتراض! وأن يتحولن إلى نسخ مكررة عن بعض.. هكذا تريد الحكومة من نساء المستقبل، أن يكنَّ منزوعات القرار والحرية والاختيار.. وبذلك تعطّل الحكومة نصف المجتمع، وتستكمل تدجين البنات، بعدما دجنت كل البلد».
في الواقع ستجد مثل هذا الإعلان في مختلف مدارس فلسطين، بل إن مدارس كثيرة تزيد من عندها قائمة الممنوعات لتشمل:
يمنع لبس الحلي والإكسسوارات، والبُكل والمشابك الملونة، تمنع الأحذية ذات الكعب العالي أو الصنادل، يمنع أي إضافات أو تطريز على المريول، يمنع نتف الحواجب، المانيكير، صبغ الشعر أو فرده، أي مواد تجميل، أو كريمات الوجه.. يمنع الوقوف بالقرب من الأحواض المزروعة، ويمنع مضغ العلكة، أو الأكل أو الشرب داخل الصف، أو الخروج من الصف، أو التجول في الممرات، أو الركض في الساحة أثناء الفرصة، كما يمنع إحضار الجوالات للمدرسة، وفي فصل الشتاء يمنع ارتداء الجاكيتات ذات الألوان الفاقعة. داخل الصف ممنوع الحركة، ممنوع الابتسام، ممنوع السرحان، ممنوع المشاركة، ممنوع تبديل المقعد، ممنوع الأسئلة الاستفزازية، ممنوع الاعتراض على المدرس، ممنوع المزاح أو الضحك بصوت مرتفع.. ممنوع البقاء في ساحات المدرسة بعد الدوام، وممنوع اللعب في ملاعب المدرسة إلا وقت حصة الرياضة..
والآن لنناقش مدى جدوى وأهمية هذه الممنوعات:
أولاً، أنظمة وزارة التربية وقوانينها وتوجيهاتها تخلو تماما من تفاصيل كهذه، وهذه الممنوعات عبارة عن اجتهاد شخصي من إدارات المدارس، صارت عُرفاً متبعاً، والوزارة متواطئة معها.. فمثلاً بعض المدارس في غزة ترفض بشكل قاطع الزي الرسمي المحدد من قبل وزارة التربية، وتشترط ارتداء الطالبة الجلباب فقط، وضمن مواصفات مشددة، وإلّا «تُطرد من المدرسة». وهذا يتناقض مع القانون الأساسي الفلسطيني، ومع وثيقة الاستقلال، ومع قوانين ولوائح الوزارة نفسها.
يظن البعض أن الزي الموحد يلغي الفروقات الطبقية، وهذا غير دقيق، وغير واقعي.. أو أنه جاء لفرض الانضباط والتعود على الالتزام، وهذا أيضاً غير دقيق.. فلو تأملت قائمة الممنوعات ستجد بعضها غريباً، ومستهجناً، ولا علاقة لها بالتربية والأخلاق والانضباط، أو تحسين جودة التعليم.. بل إنها تكرّه الطلبة بمدارسهم.
والانضباط نفسه قضية إشكالية؛ فهو ضد التمرد، وضد الحرية، وضد الاختيار، بما يوصل إلى قمع حرية التفكير وخنق روح الثورة في نفوس الطلبة، وحتى خنق روح التساؤل.. فالانضباط في أحد معانيه هو فرض نمط موحد على الناس، لمنع الاختلافات والتميز؛ أي تنميطاً للشخصية.. وهذا ضد قوانين الطبيعة، بل هو أحد أقوى الأسلحة التي تستخدمها الأنظمة الديكتاتورية لضمان بقائها في الحكم.
في تجربة «الخمير الحمر»، وهو أسوأ نظام شمولي عرفه التاريخ، كان أول شيء فعلوه بعدما فرضوا سيطرتهم على البلاد والعباد هو تجريد المواطنين من ملابسهم، وفرض زي موحد على الجميع (بنطلون وقميص بلون كحلي قاتم).
في واقع الأمر، تعمل قائمة الممنوعات تلك على تجريد الطلبة من كل معاني الجمال والاحتفال بالحياة والتنوع، فمثلاً حظر تعدد الألوان يعني في العقل الباطن رؤية الحياة بلونين فقط ضمن عقلية ثنائية حادة، أي فرض نمط معين من التفكير في زاوية ضيقة، وتوجيه الاختيارات بشكل محدد مسبقاً.
منع الحركة، والابتسام، والمزاح، والركض، والضحك، والتساؤل.. هو تقييد للروح والبدن، وقمع للعقل، وقتل للبهجة والفرح.. أي تقييد الحرية، وحبس روح التوثب الحركية داخل الجسد.. وتلك أهم شروط ومتطلبات من يريد التمرد على النظم القائمة، وتغييرها، وتطويرها.. وبالتالي هي في نهاية المطاف خطوة استباقية من قبل النظم السياسية لمنع خلق قوى معارضة، أو حركات احتجاجية، أي إنتاج مجتمعات مكبوتة ومكممة.
عندما يفقد الطالب حقه في اختيار ما يلبس، وضمن هذه الشروط المشددة، سيفقد إحساسه بحريته الشخصية، سيشعر أن جسمه وشخصيته وروحه وعقله ليست ملكا له، بل هي ملك للمدرسة (أي ملكاً للحكومة والنظام).. وهذا الإحساس سيرافقه طيلة حياته. ولا يتوقف الأمر عند حرية اختيار الملبس، بل سيمتد إلى متى يأكل، وماذا، وكيف يجلس، وأين، وكيف يصفف شعره، ومتى يذهب للحمّام، وكيف يقمع مشاعره واحتياجاته النفسية والبدنية، وما هي الأسئلة المسموح بطرحها، والمناطق التي يسمح بالوصول إليها، ومتى يركض، أو يقفز، وأين.. وهذه التقييدات كافية لتشويه معنى الحرية.
يقول البعض إن بعض الدول الأجنبية لا تفرض زياً موحداً على الطلبة، ولا تلزمهم بقوانين صارمة، ما تسبب بتمرد الطلبة على المجتمع، وبالتالي انحلال الأخلاق، وانتشار المخدرات، وزيادة معدلات حمل الطالبات دون زواج، وضياع هيبة المدرس.. وهذا صحيح نسبياً، لكنه جزء من الحقيقة، إذ يتجاهل حقيقة أن تلك المدارس خرّجت أبرز العلماء والأدباء والمختصين والمخترعين والرياضيين والموهوبين.. بينما مدارسنا (الملتزمة والصارمة) تخرّج أفواجاً من طلبة مكررين، يشبهون آباءهم وأجدادهم في كل شيء، وأقصد كل ما هو قديم وعفا عليه الزمن، ويشبهون مجتمعاتهم بكل ما فيها من أمراض وتخلف.. بمعنى أن المدارس (والجامعات) تمارس دورها الوظيفي الذي تحدده الأنظمة القائمة، وهو إعادة إنتاج التخلف، وإنتاج أجيال مكررة، بالصورة التي تضمن بقاء السلطة، وهيمنة الطبقات الحاكمة على الدولة والمجتمع، ووأد أي محاولة تغيير أو تقدم أو اعتراض وهي في مهدها، وحتى قبل أن تُولد.
بدلاً من تلك الممنوعات، على مدارسنا إعطاء الأولوية لما هو أهم وأبقى.. أي توفير ملاعب، ومختبرات، ومكتبات، وغرف صفية لائقة، والاهتمام بالفنون والموسيقى والأنشطة المتنوعة، وزراعة أشجار وورود.. وأن تشجع الطلبة على الاختلاف والحرية والتفكير النقدي.