الحدث الأفغاني، هزيمة أميركية مثلّثة الأضلاع..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

تكبّدت الولايات المتحدة، القوة الأكبر في العالم، هزيمة مثلّثة الأضلاع في أفغانستان: عسكرية وسياسية وأيديولوجية. وهذه عناصر مترابطة، لا تنفصل، ولن تكون مفهومة دون وضعها في إطار وسياق موحّدين.  
هزيمة عسكرية:
لأن الحرب امتداد للسياسة بوسائل أُخرى، فإذا فشلت في تحقيقها أصبحت عبثية. وقد حقق الأميركيون نصراً ساحقاً في الميدان، قبل عشرين عاماً، على قوّة بدائية من مخلّفات القرون الوسطى. ولكن القوّة نفسها هي التي تحتل العاصمة كابول، الآن، وهم يغادرونها في مشهد يعيد التذكير بهروبهم المُهين، قبل ستة وأربعين عاماً، عن سطح سفارتهم في سايغون الفيتنامية.
ولا يهم، في الواقع، ما إذا كان خروجهم من أفغانستان نتيجة "مؤامرة" تسمح لهم بالخروج "الآمن"، ولعصابة الطالبان بالاستيلاء على البلاد والعباد. المهم، أن ما بدا انتصاراً أميركياً ساحقاً في الميدان يتجلى، بعد عشرين عاماً، كمغامرة عبثية وفاشلة تماماً، وهذا ما تعمّق دلالته حقيقة أن الطالبان لم يتكرّموا عليهم، في الأيام القليلة الماضية، وبعد مفاوضات سلام على مدار أشهر طويلة، حتى بما يكفي من الخروج الآمن لحفظ ماء الوجه.
وهزيمة سياسية:
 لأن سحق الطالبان، لم يجد مسوّغاته، لكي تكون الحرب "عادلة"، في عقاب العصابة الطالبانية على تورّطها في هجمات الحادي عشر من سبتمبر وحسب، بل وفي مشروع كوني للحرب على الإرهاب، أيضاً. وإذا كانت الأمور بخواتيمها فها هو الإرهاب ينتصر، بعد عشرين عاماً من نقلة المشروع الافتتاحية على رقعة شطرنج العالم، في أفغانستان. المشروع نفسه، الذي تسبب بعد احتلال العراق، والتحالف مع اليمين الديني في ممالك النفط، وآخرين في الإقليم والعالم، لاحتواء "المتطرفين"، في توليد الإرهاب الداعشي، الأكثر عدمية وجنوناً وبشاعة في العالم.
وهزيمة أيديولوجية:
لأن "عدالة" الحرب استدعت وجود رافعة أيديولوجية، وبطانة أخلاقية، وكلتاهما تحضر بكثافة في فكرة وخطاب الإمبراطورية عن نفسها، وعن دورها الاستثنائي في العالم، وما يُختزل، عادة، في عبارات عمومية وسيّئة التعريف من نوع "القيم الأميركية"، والتي يفترض أن تشمل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، ضمن أمور أُخرى.
ولسنا، هنا، في معرض التعقيب على صدقية هذا كله، بل يكفي القول إن "القيم الأميركية" أضفت على عقاب الطالبان، ومشروع الحرب على الإرهاب (مع ما انطوى عليه هذا كله من سفك للدماء، وزعزعة للاستقرار، واحتلال بلاد الآخرين) بعداً رسولياً، ونُبلاً من طراز خاص.
 فها هو القدر، الذي ألقى على عاتق الأميركيين إنقاذ أوروبا من براثن النازية في الحرب العالمية الثانية، وواجب حماية "العالم الحر" من خطر الشيوعية الداهم في زمن الحرب الباردة، يضع على عاتقهم، مرّة أُخرى، عبء تحرير العرب والمسلمين والبشرية من خطر الإرهاب، وتحرير الدول التي تمكّن منها، وتمكينها من بناء أنظمة ديمقراطية، حرّة، وجديدة.
وقد وجد هذا كله عبارة في لغة السياسة الأميركية هي مشروع "بناء الدولة" في أفغانستان، كما في العراق، مع كل التوابل الضرورية، طبعاً، بما فيها تمكين النساء، وتعديل مناهج التعليم، وإنشاء البرلمانات، وكتابة الدساتير، وإجراء الانتخابات.. الخ.
وإذا كانت الأمور بخواتيمها، أيضاً، فإن الدولة الأفغانية الجديدة، التي أنفق الأميركيون عقدين من الزمن في إنشائها، وتدريب جيشها وكوادرها، انهارت خلال أيام. وكان يمكن للدولة العراقية أن تلقى المصير نفسه، بعد استيلاء الدواعش على الموصل، لولا اعتبارات استراتيجية منها وجود إسرائيل، ومصادر النفط، وطرق التجارة الدولية.
وإذا كانت الأمور بخواتيمها فإن الخروج غير الآمن للأميركيين من أفغانستان، وسقوط تجربة بناء الدولة هناك، وتسليم البلاد والعباد لعصابة الطالبان لا يعني افتضاح أمر الأيديولوجيا الرسولية للإمبراطورية وحسب، بل ويعني، أيضاً، إفلاس الإمبراطورية نفسها. وربما لم يعد من السابق لأوانه التأريخ لانهيار الإمبراطورية بالهزيمة مثلثّة الأضلاع في أفغانستان.
في مغامرتهم الأفغانية الفاشلة، أنفق الأميركيون قرابة مائة مليار دولار. وفقدوا قرابة 2500 من جنودهم، في حرب هي الأطول في تاريخ الحروب الأميركية، ولم يحققوا شيئاً يُذكر. ولكن هذا كله يبدو قليل الأهمية، إذا ما قورن بالنتائج الكارثية للحرب على الإرهاب، التي أودت بحياة الملايين من الأبرياء في أفغانستان، والعراق، وسورية، وحوّلت الملايين إلى لاجئين داخل بلادهم وخارجها، وزعزعت الاستقرار في الشرق الأوسط، وألحقت بمجتمعاته جراحاً لن تندمل في وقت قريب.
وهذا كله، وعلى فداحته، يبدو قليل الشأن إذا ما قورن بنتيجة مُرعبة للهزيمة مثلثّة الأضلاع في أفغانستان. فقد نجح الأميركيون، على مدار عقدين، في تحقيق انتصارات عسكرية سريعة، ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في تحقيق نتائج سياسية إيجابية. وها هم يتركون الجمل بما حمل.  
وهذا، بدوره، يبدو جزءاً من الماضي، الآن، فما يلوح في الأفق، بعد تسليم البلاد لعصابة الطالبان، وبعد انتصار نظام الأسد في الحرب الأهلية (وهذه ليست مسؤولية أميركا، على أي حال)، ووجود دول فاشلة في الإقليم، واحتمال أن تلتحق بها دول أُخرى، ومع تطبيع الاحتلال الإسرائيلي وعنفه المباشر ضد الفلسطينيين، وتحالف الإسرائيليين مع ممالك النفط، يتجلى ما يشبه اليأس الكوني من إصلاح هذا الجزء من العالم، وحتى من إصلاح العالم نفسه.
وهذا مُخيف فعلاً، لأنه يفتح الباب على احتمال وقوع المجازر، واندلاع الحروب الأهلية، وبطش الحكّام بشعوبهم، ناهيك عن تقويض مجتمعات على يد ميليشيات، وتقويض دول على يد دول. يمكن لهذا كله أن يحدث في الشرق الأوسط، ومناطق أُخرى، تحت سمع العالم وبصره، في ظل اليأس من الإصلاح.
للحدث الأفغاني تداعيات متعددة، بطبيعة الحال، وهذا موضوع معالجات لاحقة.