الانسحاب المتسرع والمذعور للدبلوماسيين والمدنيين والجنود الامريكيين من افغانستان يعرض الفشل الصارخ للاستراتيجية الامريكية خلال عشرات السنين. وفي نفس الوقت هو يرسم سيناريو الكابوس لمستقبل الدولة. الضرر المتوقع للنساء وجهاز التعليم والصحة وحقوق الانسان وعملية اعادة اعمارها. ولكن الفترة الظلامية المتوقعة لافغانستان في ظل حكم طالبان لا تنفي احتمالية أن يتم معها بناء شبكة علاقات على المستوى الدولي، مثل تلك التي ستعطي المنظمة الشرعية، وربما تساعدها على تخفيف الضربة المتوقعة على المواطنين فيها.
ليس من نافل القول الاشارة الى أن طالبان سبق وحصلت على الشرعية عندما اعترف الرئيس الامريكي السابق، دونالد ترامب، بأنها شريكة في المفاوضات السياسية حول مستقبل افغانستان، ووقع معها على اتفاق يحاول تسوية، ضمن امور اخرى، تقسيم القوة السياسية في الدولة بينها وبين الحكومة القانونية. المفاوضات التي اجراها ممثلون امريكيون في قطر حتى اللحظة الاخيرة، حتى في فترة ادارة جو بايدن، أكدت حقا بأن الولايات المتحدة لا تعترف بقانونية “امارة افغانستان الاسلامية”، مثلما تعتبر طالبان نفسها. ولكن مجرد التوقيع على الاتفاق معها هو مثابة اعتراف بها.
الولايات المتحدة ليست الدولة العظمى الوحيدة التي كانت لها علاقات مع طالبان. فروسيا والصين استضافتا هذه السنة ممثلون من طالبان وتفاوضوا معهم حول البناء وتعزيز العلاقات الاقتصادية قبل انسحاب القوات الامريكية من الدولة. اضافة اليهما ايضا السعودية والهند وباكستان وايران واتحاد الامارات، ساعدت الحركة على مدى سنين. والآن هؤلاء يحاولون قطف ثمار الاستثمارات الضخمة التي ساعدت طالبان في الحفاظ على قوتها وتمويل نشاطاتها.
شبكة العلاقات بين طالبان والولايات المتحدة لم تبدأ في السنتين الاخيرتين. ففي العام 1997، بعد سنة فقط على سيطرة طالبان على افغانستان، استضافت شركة النفط الامريكية الضخمة “يونوكال” وفد لطالبان، من بينهم من كان وزير الخارجية، الملا محمد غاوس، في مقر الشركة في يوستن في تكساس. هدف زيارة الوفد الذي حظي باحترام الملوك، وضمن ذلك نزهة في جبل روشمور، كان التوقيع على اتفاق لاقامة انبوب غاز يمر في تركمانستان وافغانستان ويصل الى باكستان والهند. حسب التقارير في حينه، في الشركة وعدوا طالبان بمبلغ 50 – 100 مليون دولار في السنة كأتاواة عن استخدام اراضيها وفي المقابل حماية الانبوب. حتى أن الشركة افتتحت مركز خاص لتأهيل المهنيين الافغان في جامعة نبراسكا في اوماها باستثمار يقدر بنحو 900 ألف دولار. وقد استخدم هذا المركز كقاعدة لتجنيد العمال للمشروع.
الصفقة لم تخرج في نهاية المطاف الى حيز التنفيذ بسبب الحرب الاهلية في افغانستان، وعمليات القاعدة في السفارة الامريكية في نيروبي ودار السلام. وبالاساس بسبب ضغط الجمهور الامريكي ضد الصفقات مع طالبان.
ولكن الحوار مع طالبان استمر حتى بعد ذلك عندما ادار الرئيس بوش مع قيادة طالبان مفاوضات لتسليم إبن لادن مقابل الاعتراف بها وتقديم مساعدات اقتصادية لها.
بعد غزو الولايات المتحدة لافغانستان في 2001 عين مدير الاحتلال، حميد كارزاي رئيسا للدولة، وهو المنصب الذي بقي فيه حتى 2014. وحسب تقارير تم نفيها، كارزاي خدم لفترة قصيرة كمستشار في شركة “يونوكال”. الامر الذي لا يمكن نفسه هو علاقته الوثيقة مع طالبان ودعمه للحركة.
كارزاي هو إبن قبيلة اوبلزاي، التي خرج منها ايضا عبد الغني بارادار، الرئيس المرشح لافغانستان في ظل حكم طالبان، والذي مطلوب للقوات الامريكية، وسجن وتم اطلاق سراحه في 2018. وبعد ذلك تحول الى شريك في المفاوضات بين الولايات المتحدة وقيادة طالبان. تقريبا، لا يمكن رسم خطوط الحدود التي فصلت بين الادارة الفاسدة لكارزاي وبين طالبان. في نفس الوقت هذه العلاقات ساعدت، ويتوقع أن تساعد، الولايات المتحدة في ايجاد مسارات الى قلب حكومة طالبان الجديدة.
مصالح مشتركة
الطرفان لهما مصالح اقتصادية مشتركة. فالولايات المتحدة لم تتنازل فقط عن فكرة انبوب غاز من تركمانستان، بل حولته في العام 2014 الى المشروع الرئيسي الذي يمكن أن يدر مكاسب كبيرة لافغانستان وتركمانستان والشركات الامريكية التي ستقوم ببنائه، لا سيما كوسيلة التفافية على تزويد الغاز من ايران. بين الدول التي سيمر فيها الانبوب باسم “تي.إي.بي.آي” (تركمانستان، افغانستان، باكستان والهندف) تم التوقيع على اتفاق لبناء انبوب بتكلفة 7.5 مليار دولار. بناء الانبوب بدأ في 2015. وصحيح أن الولايات المتحدة ليست شريكة في بناء أو تمويل الانبوب، لكنها اعتبرت أن استكماله هو عملية يمكن أن تساعد على اعادة اعمار افغانستان.
هل هذا الانبوب يمكن أن يبعث من الموت في ظل حكم طالبان؟ التقديرات التي سادت في هذا الاسبوع على الفور بعد سيطرة طالبان على كابول العاصمة، سارعت الى دفن المشروع. ولكن طالبان لها مصلحة في اقامته، وايضا هناك شركاء يمكنهم أن يرفعوه. الهند، روسيا وتركمانستان، هي الدول التي لها المصلحة الاولى، التي سبق واستثمرت في المشروع قدر غير قليل من الاموال، وفي طالبان اعلنوا في السابق أنهم يهتمون بالانبوب وأنهم ينوون الاستمرار في اقامته.
على نفس المنوال، هم لم يستبعدوا حتى الآن مشاركة الشركات الامريكية في المشروع.
السؤال هو اذا كان جو بايدن سيسمح للشركات الامريكية بالمشاركة فيه أو أنه سيقرر فرض عقوبات على النظام الجديد بسبب سيطرته على الدولة ومسه المتوقع بحقوق الانسان. اضافة الى المصالح الاقتصادية، واشنطن يجب عليها التقرير كيف سيتساوق حكم طالبان في اطار الاستراتيجية الاقليمية، خاصة على خلفية العلاقات بينها وبين ايران.
بشكل تقليدي، طالبان اعتبرت ايران عدوة دينية وايديولوجية. ولكن رجالها لم يمتنعوا عن تلقي الاموال والسلاح من ايران مقابل الحفاظ على حدودها من اختراق داعش والامتناع عن المس بالاقلية الشيعية في افغانستان.
صحيح أنه يصعب تخيل أن الرئيس الامريكي الذي وضع الحفاظ على حقوق الانسان على رأس سلم اولوياته سيعانق فجأة قيادة طالبان. ولكن عندما يكون مستعد للتحدث مع الحوثيين في اليمن ويطمح الى اجراء مفاوضات مع ايران في مواضيع خارج الاتفاق النووي، ولم يفرض على السعودية عقوبات حتى الآن، خاصة عند مشاهدة البرود وعدم المبالاة التي اظهرها ازاء المأساة المتوقعة في افغانستان، يجب عدم استبعاد امكانية أن يفحص بجدية التعاون مع طالبان، حتى ولو في محاولة لتقليص الاضرار بالمدنيين.