ليس للشعب الأفغاني من يكترث به

عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد المجيد سويلم

لا أحد يعبأ بمصير الشعب الأفغاني في معمعان حالة الفوضى التي تضرب البلاد، وليس لهذا الشعب من يهتم بهذا المصير على وجه التحديد والخصوص.
الحروب، والدمار المتواصل في أفغانستان يدوران بمعزل تام عن حقوق هذا الشعب ومصالحه وتطلعاته.
أما الصفقات التي تمت على مدار هذه الحروب فقد دفع الشعب الأفغاني ثمنها غالياً حتى الآن.
الصفقة الجديدة أخطر من كل الصفقات السابقة، والظاهر منها ليس سوى شذرات وقشور خارجية، لأن المخفي أكبر بكثير من المعلن والمتداول.
لكن قبل ذلك علينا أن ننتصر لهذا الشعب المستضعف والمتروك جانباً من أصحاب المصالح «العليا» ومن الطبقة أو الطبقات السياسية والنخب العسكرتارية وأمراء الحروب وتجار المخدرات. الشعب الأفغاني في قاع اهتمامات كل هؤلاء، وهو في أسفل درك الأولويات عند الولايات المتحدة وعند الغرب، الذي يقاسم ويتقاسم معها الشأن الأفغاني، وخصوصاً الدول الأوروبية الكبيرة مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.
الشعب الأفغاني هو السبيّة والضحيّة، وهو وقود الحريق والمكتوي بناره، وهو المحترق الأول والأخير بألسنة اللهب في هذه الحروب المجنونة التي لا تنتهي، والتي ما أن تنتهي حتى تبدأ من جديد.
لا يغادر الشعب الأفغاني أرض المعارك، وكل من يتغير فيها هم جهات وأطراف هذه الدوامة المتواصلة.
ينتقل الشعب الأفغاني في دورة جهنمية بين الظلم والظلام والظلامية.
مرة تحت الدلف وأخرى تحت المزراب.
وبين الفارين والهاربين والمهربين تدور هذه الدائرة المجنونة.
غزاة يستعجلون الهروب، وهاربون لا يجدون وسيلة للهرب.
وفي الحالتين، تنتصر جهة على أخرى وينصّبون على رأس الشعب الأفغاني في مشهد يعيد إلى الأذهان تقلبات الأحوال ومباغتات القدر في المسرح الروماني المعروف. مأساة ملحمية في صناعة البؤس وإعادة تدوير التخلف واستثمارات ضخمة في فنون الفقر والإفقار.
أما الجهل والتجهيل فيظل سيد الموقف وعنوانه الأهم. مسكين هذا الشعب، لأن القدر يخبئ له الموت، والصفقة التي عقدت بين الأميركيين والطالبان ستجدد له عقودا أخرى من الحرب، ومقاولات جديدة ستمتد إلى ما هو أصعب مما مروا عليه حتى الآن.
قلنا في المقال السابق، إن الولايات المتحدة عقدت صفقة مع الطالبان وفي ذهنها (ذهن الولايات المتحدة) الحرب غير العسكرية المعلنة على كل من الصين وروسيا، إضافة إلى إيران وربما باكستان أيضاً عند درجة محددة من تفاقم الأمور في هذه المنطقة الآسيوية الحساسة. إن كل من يتابع التقارير المهنية حول (أسرار) الانسحاب الأميركي من أفغانستان بات يعرف، الآن، أن «الهدف» هو تحويل أفغانستان إلى مصد أميركي ضد التمدد الاقتصادي «المرعب» للولايات المتحدة من قبل التنين الصيني، وكذلك محاصرة النفوذ والمصالح الروسية في هذه البلاد.
وكل متابع بات على معرفة ويقين ـ إذا كان المتابع من ذوي النظرة الموضوعية ـ ان الإدارة الأميركية في هيئة مصالح الدولة الأميركية العميقة قد هندست هذا الانسحاب مع قطر على نار هادئة، وعلى مدار اكثر من سنتين كاملتين من «المفاوضات» بين الولايات المتحدة وطالبان.
دارت المفاوضات حول الكيفية التي من خلالها يتم «تحول» طالبان من تنظيم «إرهابي» متزمت ومتطرف، ومن ميليشيا «رثّة» إلى حزب سياسي أو بالأحرى حركة سياسية تتبنى الأيديولوجية «الوسطية»، وإلى تنظيم سياسي وعسكري قادر على تسلم السلطة الجديدة وإدارتها بعقلية الدولة وليس بعقلية ومنطق الميليشيات المسلحة.
هذه المسألة حسمت بالكامل، وضمنت قطر هذا التحول بالكامل، وقد تم التوافق على آليات كاملة ومتكاملة لهذا التحول.
وهذا هو ما يفسر ابتهاج الإخوان المسلمين في كل من الأردن وفلسطين بهذا «الانتصار» المؤزّر، والحبل الإخواني على الجرّار.
كما دارت «المفاوضات» على آليات ملموسة لوقف الزحف الصيني على الاقتصاديات الآسيوية، ومن ثم العالمية في خطة الصين العملاقة المسماة بطريق الحرير.
أغلب الظن هنا أن عين الولايات المتحدة، وكذلك عين بعض البلدان الغربية الكبيرة على الثروات المعدنية الهائلة التي تمتلكها أفغانستان على هيئة احتياطات كبيرة من المعادن الاستراتيجية التي تدخل في صناعات تكنولوجيا «المعرفة» وفي الصناعات الفضائية وكذلك النووية.
الأمر لا يتوقف على السليكون وإنما يتعداه إلى بعض أنواع اليورانيوم عالية الجودة، وعلى معادن أخرى «ثمينة» واستراتيجية بوجه خاص، وربما ليست معروفة لبلدان كثيرة، وهي ليست في عداد المعادن التقليدية المعروفة حول هذه الصناعات.
كما اشتملت هذه المفاوضات على «الضمانات» الأميركية الكاملة لانهيار جيش أشرف غني، وعلى سقوط دفاعات هذا الجيش دون قتال، كما تم الاتفاق على دور حكام الولايات الأفغانية في هذه العملية.
تبين، الآن، أن هؤلاء الحكام كانوا يعملون كموظفين لدى الإدارة الأميركية اكثر مما هم لدى الإدارة الأفغانية. وشملت المفاوضات بالإضافة إلى ذلك آليات مباشرة، تبدأ في المستقبل القريب لإثارة قضية المسلمين لجهة دعم «الإيغور» وإشعال ثورة مسلحة عارمة ضد الحكومة الصينية.
وبالنسبة لباكستان، فكما هو معروف فإنها ترتبط بعلاقات خاصة مع الصين. فالولايات المتحدة ترى فيها بلدا لا يمكن الوثوق به كلياً، وترى فيه بلدا قابلا للاستدارة السياسية السريعة في حال إن تفاقم صراعها مع الهند على كشمير وفي حال إن استمرت الولايات المتحدة في تأييدها الخفي للهند، وفي حال بقيت تراهن على هذا الدعم لإبعاد الشبح الروسي عن الهند.
وبقدر ما يتعلق الأمر بالخطط الأميركية الاستراتيجية في آسيا، وهي الخطط التي وضعت في عهد أوباما، ولم يخترعها دونالد ترامب ولا الحزب الجمهوري، فإن إحدى وسائل الضغط على إيران كانت وما زالت تكمن في محاصرة المد الشيعي ومحاولة منع إيران من «التمدد» في أفغانستان وفي باكستان أيضاً.
لهذا كله، فإن الصفقة التي تمت بين الولايات المتحدة وبين طالبان اخطر بكثير واكبر بكثير مما تبدو على السطح الإعلامي، وأبعد من الهرطقات الثورجية التي رأت في «انتصار» طالبان «نسخة» عن هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام.
معظم الإسلاميين العرب وبعض «الثوريين» اليساريين، كل من زاويته وحسب مصالحه وطريقته في قياس هذه المصالح يتغنون، اليوم، بهذا الانتصار، لأنهم يدركون الأبعاد الحقيقية لهذه الصفقة بالنسبة لجماعات «الإسلام السياسي»، في حين أن الثوريين اليساريين لا يدركونها مع الأسف.
في الحالة الأولى، الحسابات هي حسابات رؤى ومصالح وأبعاد، في حين أن الحسابات  والرؤى في الحالة الثانية هي حسابات ميكانيكية ساذجة وسطحية.
وفيما يتعلق بالدور القطري فإن العطاء وقد رسا على طالبان لوقف الزحف الصيني والتمدد الروسي المحتمل، وفيما يتعلق بالضغط على إيران والبقاء في دائرة الريبة بالنسبة لباكستان، فإن هذا الدور سيزداد وزنا وأهمية، وسيكون «للرأي» القطري شأن اكبر في ملفات إقليمية ودولية أخرى.
سأجازف بالقول ومنذ، الآن، إن الذي كنا نعرفه عن موقف طالبان من إسرائيل سيلفظ عن قريب أنفاسه الأخيرة، وان الحركة «ستتعقلن» إلى درجة «الحياد» المستتر في رؤيتها للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وسيكون الموقف «الطالباني» من هذا الصراع ليس أعلى من موقف أي حزب اشتراكي ديمقراطي في أوروبا، إن لم نقل أقل من ذلك.
أما بالنسبة لقادم الصفقات وقادم العطاءات فإن أكثرها ترجيحاً ـ كما أرى ـ هي صفقة إقحام وتجهيز حركة حماس أولاً ثم إدخالها في سلم الحسابات الأميركية ورؤيتها في التعامل مع مقتضيات «حل» الصراع في المنطقة ثانياً، ثم تدجين هذه الحركة بالكامل وترويضها لكي تصبح «مؤهلة» سياسياً للدور الجديد.