بيتا العطشى … تسقينا كرامة

حجم الخط

بقلم:منيب رشيد المصري

 

لم تكن زيارة بلدة بيتا في قضاء نابلس، حدثا عاديا بالنسبة لي، فقد شاهدت ما يسر القلب، وما يؤكد أن الشعب الفلسطيني مثل طائر العنقاء، ينهض من تحت الرماد، إصرار أهل بيتا بشبابها وشاباتها وشيوخها وأطفالها، يقاومون كيان الاحتلال بما يملكه من غطرسة القوة، وما يملكه من أدوات قتل، لم تنفع كلها في إطفاء شعلة المقاومة في هذه البلدة الصغيرة بمساحتها، العظيمة في عطائها وصمودها.
إنهم حراس الجبل، لا بل حراس القضية، وحاملي شعلة وإرث من فجروا الانتفاضات الفلسطينية منذ الاحتلال البريطاني ولغاية يومنا هذا، في مقاومتهم السلمية الرائعة، أعادوا لنا البوصلة، وأكدوا لنا وللآخرين بأنه من المستحيل التعايش مع الاحتلال، وأن الطريق نحو الحرية والاستقلال تبدأ وتنتهي بالمقاومة لأنها اللغة الوحيدة التي يفهمها الاحتلال، وهذا ما أكدته لنا جميع التجارب التاريخية.
لا شك بأن صراعنا مع الحركة الصهيونية بدأ منذ ما قبل مؤتمر بازل عام 1897، وأن إحدى أهم المحطات التي أسست لقيام دولة إسرائيل هو إعلان بلفور عام 1917، هذا الإعلان الذي نعتبره غير أخلاقي وغير قانوني، ولاحقناه قضائيا حتى استطعنا أن نحصل على حكم من محكمة بداية نابلس ببطلانه، ونحن نعمل الآن على ملاحقته أمام القضاء البريطاني، حتى تكون هذه الأحكام القضائية مسامير في نعش ليس فقط هذا الإعلان بل أيضا في نعش عنصرية دولة الاحتلال، التي ما فتئت منذ أكثر من 73 عاما على ممارسة أبشع أنواع القتل والدمار والتشريد بحق الشعب الفلسطيني.
نرى حجم الحقد وسياسات الإلغاء في أبشع صورها عندما نرى ما يحصل في بلدة بيتا، تخيلوا أن أحد المواطنين ذهب لفتح صنبور المياه الذي أغلقه الاحتلال لتعطيش الأهالي هناك فقابلته رصاصة حاقدة من جندي مجرم عنصري أودت بحياته، ما هذا الكم من الحقد الذي في صدورهم؟ ما هذا الفكر الذي يحملونه لتصبح حياة من هو غير صهيوني مباحة لحد القتل؟.
كل هذا وأكثر مارسته هذه الدولة العنصرية على الشعب الفلسطيني، ولكن نحن نقول بأن فجرنا قادم لأننا أصحب حق ولدينا من الأمل والعمل المقاوم ما يكفي لدحر هذا الاحتلال، وتحقيق هدفنا في العودة والحرية والاستقلال وإقامة دولتنا الديمقراطية التي تتسع لجميع مواطنيها، وهنا لا بد من التأكيد على أن حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه الطبيعية وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره لا يتعارض إطلاقا مع حق “الإسرائيليين” في الوجود، ولا يعني إطلاقا أننا سنقذف بهم في البحر كما كان يُقال في سنوات ماضية خلت.
إنني أؤمن تماما بأن سياسات دولة الاحتلال هي التي أدت إلى موت حل الدولتين من خلال الاستيطان ومصادرة الأراضي، والاستيلاء على المصادر الطبيعية وفي مقدمتها المياه الجوفية في الضفة الغربية بما فيها القدس، وفي قطاع غزة المحاصر والمدمر بسبب الحروب العدوانية التي شنها جيش الاحتلال على القطاع، بالإضافة إلى كل محاولات الوصول إلى حل مع “دولة الاحتلال” ابتداء من العام 1988، أو ما عرف حينها بهجوم السلام الفلسطيني ولغاية الآن، كلها محاولات لم تؤد إلى نتيجة بل أمعنت دولة الاحتلال في سياساتها العنصرية الرافضة إلى أي حل يقود إلى حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه الطبيعية.
في ظل انعدام الأفق ببناء الدولة الفلسطينية على حدود العام 1967، فإن الحل الأمثل هو العودة إلى ما طالبت فيه حركة فتح في بداية انطلاقتها في العام 1965، حينما نادت بالدولة الديمقراطية على أرض فلسطين التاريخية، وهو حل الآن يطرحه أكثر من مجموعة فلسطينية وإسرائيلية، وهو حل من وجه نظري معقول إذا ما استطعنا الوصول إلى دولة ديمقراطية علمانية قائمة على أساس مفهوم المواطنة.
قد يبدو هذا الحل بعيدا وغير معقول في ظل موازين القوى الراجحة لصالح إسرائيل، ووضع فلسطيني أقل ما يقال فيه أنه سيء، لا يسمح لنا بتعديل موازين القوى إلا إذا اتخذنا خطوات عملية لصالح تقوية الوضع الفلسطيني الداخلي، الذي أساسه إنهاء الانقسام والاتفاق على برنامج وطني قائم على أساس الشراكة السياسية الكاملة.
وفي هذا السياق نرى بأن تشكيل حكومة وحدة وطنية مقبولة دوليا، والذهاب نحو توحيد المؤسسات بشقيها الأمني والمدني، والذهاب نحو انتخابات عامة، والاتفاق على إعادة تفعيل مؤسسات منظمة التحرير على أسس ديمقراطية تشاركيه تضم كل الطيف الفلسطيني، هذا كله من شأنه أن يقوي الوضع الفلسطيني الداخلي ويدفع باتجاه تعديل موازين القوى والذهاب نحو الدولة الديمقراطية على أرض فلسطين التاريخية، مع ضمان حق العودة لمن هجروا من ديارهم سواء عام 1948، أو في عام 1967، لأن هذا هو الحل المعقول الذي يضمن للجميع العيش ضمن نظام ديمقراطي قائم على أساس الحقوق والواجبات المتساوية لكل المواطنين بعيدا عن العرق والدين والاعتقاد واللون.
قد أكون ابتعدت عن ما يجري في بلدة بيتا ولكن ما يجري هناك هو صورة مصغرة لشكل وطبيعة الصراع بين شعب تحت الاحتلال، وجيش مُحَتل، نعم بيتا صمدت وستبقى صادمة، وهي حقا عطشى ولكن تسقينا الكرامة، فكل الدعم والتأييد لهؤلاء الأبطال في هذه البلدة البطلة.