انهارت المؤسسات الأفغانية التي أشرفت إدارتا بوش الابن وباراك أوباما الأميركيتان على بنائها وتمويلها بمبالغ طائلة.
في أفغانستان، «كل شيء تحطم في لحظة عابرة» كما قال الشاعر أمل دنقل.
وجه الغرابة أن الانهيار الأفغاني شمل مؤسسات الأمن والعسكر ومؤسسات المجتمع المدني على حد سواء.
وإذا كان تماسك وتطور المجتمع يقاس بالمأسسة القائمة على القانون والحريات، فهل يجوز قراءة تطور المجتمع الفلسطيني من خلال مؤسساته الرسمية وغير الرسمية وهو موضوع هذا المقال.
في الأسابيع القليلة الماضية شهدت مؤسسة ياسر عرفات أزمة سياسية إدارية، وقبل ذلك مرت مؤسسة محمود درويش في أزمة، فضلاً عن الأزمة التي تعيشها مؤسسات منظمة التحرير والسلطة، وإلى حد كبير تتشارك في الأزمة مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، كالأحزاب والمنظمات غير الحكومية والمنظمات الخيرية والاتحادات القطاعية والمهنية ومؤسسات الفكر والثقافة والإعلام وغير ذلك من مؤسسات. ولا شك في أن العلاقة وثيقة بين أزمة المؤسسات الرسمية وأزمة المؤسسات غير الرسمية.
قد لا يختلف كثيرون حول أهمية المؤسسات في تطوير بنية مجتمعية تفتح الأبواب أمام التطور في مختلف الميادين، بنية تستند إلى القانون وحقوق المواطنة والمساءلة ينبثق عنها نظام ديمقراطي.
غير أن مستوى تطور المجتمع الفلسطيني واستجابته الخلاقة للمتغيرات والتحولات أصبح في حكم الضرورة لإنجاز مهمة التحرر من الاحتلال ومهمة تقرير المصير دون وصاية وتدخل خارجي.
وهذا يختلف عن تطور أي مجتمع في وضع طبيعي أي دون احتلال وسيطرة استعمارية. لقد أثبتت تجربة النضال الفلسطيني، أن مقاومة الاحتلال بالاعتماد على مقاومة مسلحة، تضطلع بها نخبة عسكرية في مواجهة آلة حرب، أو على مقاومة متحولة إلى جيش تخوض مواجهات غير متكافئة في ظل طغيان حالة الهدنة على حالة المواجهة.
هذا النوع من المقاومات أثبت أنه غير قادر على إنجاز مهمة التحرر. كما أن الانتفاضة الشعبية دون بنية مجتمعية قادرة على تطويرها وعلى فرض التراجعات على المحتلين.
ليس من مصلحة دولة الاحتلال، تطور مجتمع مدني ينتزع حقه في التحرر ويفضي إلى حكم ديمقراطي، وهذا ينسجم بالكامل مع الموقف الإسرائيلي التاريخي الرافض للحقوق الفلسطينية المشروعة.
وينسجم أيضاً مع المساعي الإسرائيلية المحمومة لكبح مقومات تطور المجتمع.
إزاء ذلك من المنطقي أن تحتل مهمة إعادة البناء وتطوير مناعة المجتمع الفلسطيني أولوية.
منذ البداية ارتبط البناء المؤسسي للمنظمة بالمال السياسي الذي ترك بصماته السلبية على بنية المؤسسة.
ولاحقا ارتبط بناء مؤسسات غير حكومية بالمال السياسي وأولوياته.
كانت الثقافة المؤسساتية السائدة والمعمول بها أقرب إلى العشوائية والبراغماتية، وتخضع لمركزية شديدة، وتفتقد إلى معايير بناء مهنية مثل وجود رؤية وآلية عمل وكفاءات وخبرات إدارية وتنفيذية ومساءلة وتقييم الأداء، ومحاسبة على الأخطاء.
وفي ظل طغيان العامل السياسي الممركز تخلخل البناء الداخلي وانفصل تدريجيا عن قاعدته، بعض المؤسسات تأثرت بمهارات أكاديمية ومهنية وبمستوى من الاستقلالية الإدارية وقد انعكس ذلك على أدائها الوظيفي وإنتاجيتها.
مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت حتى العام 1982 كان النموذج الأهم على سبيل المثال، لكن مؤسسات ضخمة كمؤسسة صامد والهلال الأحمر لم تكن بنيتها الإدارية والتنظيمية تسمح بتجاوز سقف معين من التطور، فلم تخضع للرقابة والمساءلة.
أما الصندوق القومي بوصفه القلب الذي يضخ الدعم إلى كل الأجزاء المكونة للمنظمة وأحد عناوين استقلال القرار الوطني، لم يتحول إلى مؤسسة رغم إمكانياته الضخمة في مرحلة الصعود الوطني.
ودائرة اللاجئين لم تتحول أيضا إلى مؤسسة رغم نطاق عملها الشاسع الذي يشمل نصف الشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، وكانت حاجة اللاجئين ملحة لتحولها إلى مؤسسة كبيرة، خلافا لذلك بقيت دائرة بيروقراطية معزولة عن جسم اللاجئين، بقيت ضعيفة الإمكانات والصلاحيات ورمزية الدور.
يلاحظ أن خضوع المؤسسات لمركزية شديدة حال دون إشراك فئات ونخب فضلاً عن خبراء وكفاءات في عملها ما أضعف دورها الخدمي والتشاركي مع القطاعات الأوسع من الناس. كان يكفي المؤسسة وجود وكلاء موالين للمركز يؤدون مهامهم دون مراقبة أو مساءلة وبالطبع دون محاسبة. غياب المعايير والمقومات لصالح الارتجال والولاء شكل بيئة مواتية لنمو الفساد.
هذا الإرث السلبي في واقع وعمل المؤسسات الرسمية تفاقم في غياب التقييم والنقد والاعتراف بالأخطاء والمحاسبة عليها، وجرى ترحيله من مرحلة إلى أخرى، وبصريح العبارة جرى توريث السلبي والبناء عليه بسلبي أكبر.
أصبح الجهاز التنفيذي أكثر استئثارا وتفردا بالصلاحيات من خلال المراسيم والتعيينات والترفيعات وأكثر إحكاما للسيطرة على المؤسسات، وأكثر استخداما لعدد كبير من وبين المؤسسات الأم.
ولا يخضع الجهاز التنفيذي للمساءلة أمام هيئات سياسية وقانونية في غياب المجلس التشريعي والنظام القضائي المستقل كما أنه لا يخضع للقانون إلا بشكل انتقائي.
ولا يزال يعتمد على إدارة وجهاز إعلامي تقليديين لا يتواءمان مع التكنولوجيا الرقمية الحديثة.
ويعتمد على أجهزة أمنية لا تنتمي إلى ثقافة حقوق الإنسان ولا تحترم تلك الحقوق بحسب تقارير المنظمات الحقوقية المحلية والعالمية.
قد لا نختلف في الجوهر على دور وأداء وأزمة المؤسسة الرسمية، مقابل ذلك هل لدينا نموذج آخر من المؤسسات التي يعول عليها.
قليلة جداً المؤسسات التي تنطبق عليها شروط ومعايير التقييم الموضوعي للمؤسسة.
وأكثرية المؤسسات تندرج تحت بند أقل سوءا وأحيانا أكثر سوءا.
السوء المتوفر في المؤسسات البديلة التي من المفترض أن تتعامل بمواصفات مهنية وإدارية وديمقراطية أفضل يفسر تفاقم الأزمة في المؤسسة الرسمية.
من المفترض أن يكون لدينا تنافس بين مؤسسات بيروقراطية مأزومة وبين مؤسسات تستجيب لحاجة المجتمع.
التنافس بين القديم والجديد بين المحافظ والحداثي، بين الديمقراطي وغير الديمقراطي، بين الفاسد وغير الفاسد، بين المهني والزبائني، بين الشفافية واحترام الأنظمة والقوانين وبين التستر على الفساد والفاسدين. بين تجديد المسؤولين كل 4 - 8 سنوات وبين تثبيتهم لمدد طويلة. التنافس والصراع الديمقراطي والإنجاز هو الذي يحدث تغييراً في البنية المؤسساتية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إن نقد المؤسسة من الموقع المأزوم ذاته ومن المواصفات السلبية ذاتها بدعوى أكثر وأقل سلباً لا يلبي الحاجة إلى التغيير.
رفع العلم الفلسطيني على صرح شهداء المؤسسة الأمنية في طوباس
26 سبتمبر 2023