في يوم من أيام هذا الشهر الصيفي الحار “آب اللهاب” ، رحل اربعة من الشعراء الفلسطينيين البارزين الذين تسلحوا بالفكر قبل المفردة ، فجاءت قصائدهم أسفارا ومشاعل ، فعدا عن الدرويش الذي ارتحل في التاسع من الشهر قبل ثلاث عشرة سنة ، ارتحل القاسم في التاسع عشر منه قبل سبع سنوات ، ونظم هذا في ذاك رثاء القرن : “قرأْنا امرأَ القَيسِ /قرأْنا مَعاً حُزنَ لوركا ولاميّةَ الشّنفرى وسُخطَ نيرودا وسِحرَ أراغون ومُعجزَةَ المتنبّي / قرأْنا مَعاً خَوفَ ناظم حِكمَت وطفلِ العَذابِ محمَّد / وسِجنِ البلادِ المؤبَّدْ / قرأْنا ما كتبنا لبِروَتنا السَّالِفَهْ/ وَرامَتِنا الخائِفَهْ/ وَعكّا وحيفا وعمّان والنّاصرَهْ/ لبيروتَ والشّام والقاهِرَهْ /وللأمَّةِ الصَّابرَهْ “.
لكن قبل ثماني وعشرين سنة وفي السادس والعشرين من الشهر ذاته رحل الشاعر عبد اللطيف عقل الذي انهى علاقته بصديق قديم لمجرد انه عرض عليه ان يلتحق به في دولة خليجية ، لم يكن الخليج اجمالا انذاك واضح المعالم المعادية لشعبنا وقضيته التحررية ، بل ان البعض كان يعتبره حليفا للثورة لمجرد انه يسمح ببعض الاموال ، وقيل ان “ابو عمار” اختلف مع “ابو اياد” لانتقاده دولة خليجية بقوله : إن كل تصريح ينتقد فيه الخليج يكلف الثورة مليون دولار . عبد اللطيف عقل انهى علاقته بصديقه لانه طلب منه ان يلتحق به في الدولة الخليجية ، وعد الرحيل والهجرة من الوطن بمثابة خيانة ؛ “فكيف أخون نبض دمي وأرتحل” . ولو جئت اليوم ، لرأيت كيف يأكل الوطن ابناءه الخلّص ، يعتدي عليهم بالضرب والحبس .
“وأنّك مثلما عودتني قد عدت تؤذيني وأحتمل / تُعيّرُني بأنّي قابع في القدس لا حبّي سينقذني ولا جرحي سيندمل / تقول بأنّني سأموت في بط ء خرافي ، وسوف أموت ُ لا وطن ولا مال ولا مثل / نسيت بأنّني البطءُ الذي في بطئه يصل / وقنديل ٌ على علات نفط خليجكم سأظلُ أشتعل / وأحمل في خلايايَ الذين بحبهم قُتلوا / ومن بترابهم ودمائهم جُبلوا / من اعتقلوا ، ومن صلبوا فما تابوا ، ولا عن عدلهم عَدَلوا/ ومن عُزلوا ، فما ملّوا عذابَ سجونهم أبداً بل إن غرامهم مَلَلُ / ومن وصلوا ضمير ذواتهم عشقا ، ولم يَصلوا / وأحفظ في شراييني الذين عيونهم أمل / سلاحهم الحجارة والدفاتر والحب الذي في سرهم حملوا / فلسطينية أحزانهم في الدرس إن ردّوا وإن سَألوا/ وحبّ الأرض انجيلٌ وقرآنٌ اذا ما هَمَّهُم جدل / قرأتُكَ فانفعلتُ ، وأنّني كالشعر أنفعل / تُزيّن لي الرحيل ، كأنّ لا يكفيك من رحلوا / وتغريني بأنّي إن أتيتُ إليك ، مثل البدر أكتمل / فشكراً يا صديق طفولتي ، اختلفت بنا السبل / أنا نبض التراب دمي ، فكيف أخون نبض دمي وأرتحل ؟
الشاعر الرابع الذي ارتحل في الحادي والعشرين من الشهر قبل تسع وثلاثين سنة ، هو علي فودة ، الذي قتل بشظية قذيفة اسرائيلية خلال احتلال بيروت عن ست وثلاثين سنة ، وهو صاحب : إني اخترتك يا وطني حبًا وطواعية / إني اخترتك يا وطني سرًا وعلانية / إني اخترتك يا وطني / فليتنكر لي زمني / ما دمت ستذكرني / يا وطني الرائع.. يا وطني ، التي غناها مارسيل خليفة بموافقته .
ها نحن نذكركم قناديلا مضيئة في العتمة المظلمة .