يليق بنا الفرح كما تليق بنا الحرية

C36AD0ED-ED36-47F2-A1A8-616125715312.jpeg
حجم الخط

بقلم نهاد ابو غوش

 

 

 استحوذت قضية الأسرى الفلسطينيين الستة الذين تحرروا من سجن جلبوع الإسرائيلي في مدينة بيسان المحتلة، وهو السجن الأكثر منعة وتحصينا ليس في فلسطين فقط بل في الشرق الأوسط، على اهتمام واسع جدا في الأوساط الشعبية والرسمية ولدى النخب والمثقفين ووسائل الإعلام كما لدى عدد كبير من الفنانين والرسامين وكتاب الأعمدة والتحليلات السياسية، واحتلت القضية ساعات طويلة من البث الفضائي والإذاعي والتحليلات والتقارير في وسائل الإعلام العربية والعبرية والعالمية، الصديقة والعدوة والمحايدة على السواء.

 حظيت القضية بكثير من الشروح والتفسيرات والتكهنات، عن سبل التحضير لهذه العملية الخارقة، وكيفية التكتم عليها. وطرحت أسئلة صعبة حول احتمال تلقي أبطال العملية لمساعدات من الخارج، أو عن وجود تعاون من قبل بعض السجانين مع الأسرى، وهل نجحوا في الوصول إلى مكان آمن، وهل يمكن للسلطة الفلسطينية والتنسيق الأمني أن يشي بهم ويساعد سلطات الاحتلال على الوصول إليهم انطلاقا من الاعتقاد أو الوهم بأن إسرائيل تحكم سيطرتها على كل شيء، وهي اسئلة أثيرت كذلك حول الدول العربية التي يمكن ان يصلوا إليها لا سيما وأن مكان السجن في منطقة بيسان لا يبعد سوى 14 كيلومترا عن الحدود الفلسطينية الأردنية، ومثلها عن مدينة جنين وبضع عشرات الكيلومترات عن كل من الحدود السورية واللبنانية عن فلسطين، وأن الوقت الذي انقضى بين تنفيذ الهروب واكتشاف العملية ( 3 ساعات) يكفي لبلوغ اي نقطة حدودية بما في ذلك السواحل الفلسطينية الشمالية قرب الناقورة المتاخمة لسواحل جنوب لبنان.

ترافق الإعجاب بمأثرة الأسرى الست الذين اجترحوا معجزة حقيقية تشبه الأفلام والمعجزات، بالخوف عليهم وعلى مصيرهم خصوصا وأن مساحة فلسطين الصغيرة هي تحت السيطرة المطلقة لقوات الاحتلال الإسرائيلي التي يمكنها اقتحام اي مكان ، أو قصفه وتدميره إذا كان الاقتحام محفوفا بالمخاطر كما هي حال قطاع غزة، ولعل ما ضاعف الإعجاب بالأسرى هو الظرف السياسي السيء الذي فاقمته مجموعة من التطورات السلبية الداخلية في العلاقات الوطنية، وقمع المعارضين، واستئناف الاتصالات الفلسطينية الإسرائيلية على قضايا معيشية واقتصادية بمعزل عن الهموم السياسية الرئيسية.

كما زاد من هذا الإعجاب معرفة كثير من الأسرى المحررين بظروف هذا السجن المنيع المخصص لقيادات الأسرى وذوي الأحكام العالية جدا ولمن تصنفهم السلطات الإسرائيلية بأنهم شديدو الخطورة، وأسهبت المصادر الأمنية والإعلامية الإسرائيلية في وصف تحصينات السجن وصعوبة اختراقه، علما بأن محاولة سابقة للهروب منه باءت بالفشل.

من الواضح أن الأسرى الستة تمتعوا بأعصاب حديدية، وقدرات عالية جدا على التخطيط، وذكاء متميز تمكن من اختراق منظومة الأمن الإسرائيلية في واحدة من نقاط قوتها  التي تتباهى بها، كما احتفظ أبطال العملية بالسرية والتكتم المطلق حتى عن أقرب اقربائهم، شقوا طريقهم البطولي الصعب والأسطوري نحو الحرية مُتَحَدِّين أعتى ادوات القمع والبطش والأسلحة المتقدمة الذكية، وأدوات الرقابة البرية والجوية، والتكنولوجيا والطيارات المسيرة، والكلاب البوليسية، وكل ما راكمته دولة الاحتلال الإسرائيلي من خبرات وتجارب في محاولاتها للسيطرة على الشعب الفلسطيني وإخضاعه، وبحسب ما أتيح من مصادر ومعلومات فقد حفر الأسرى نفقهم للحرية بأدوات بسيطة مثل الملاعق والأنصال وربما المسامير، واستغلوا هندسة السجن (المفارقة أنها منشورة من باب غطرسة الإسرائيليين وتباهيهم بقوتهم) ووجود فراغات أسفل المبنى، وقاموا بحسابات دقيقة مكّنتهم من حفر النفق الذي يبلغ طوله 25 مترا خلال عام كامل.

كل هذه البطولات الظاهرة والحقائق الدامغة لم تمنع هواة نظرية المؤامرة من تلفيق روايات واحتمالات وفرضيات لا يجمعها جامع سوى اتفاقها بأن الفلسطيني أو العربي لا يمكنه أن يهزم الإسرائيلي، فمن قائل بأن الأمر كله مسرحية هدفها التغطية على قصف غزة كما قال الكاتب المأسوف على انحداره وسقوطه يوسف زيدان، أو مسرحية لتهميش حركة حماس كما ادعى كاتب وأكاديمي معروف اسمه الدكتور فايز ابو شمالة، إلى من يروج الأخبار ويفبرك مراسيم رئاسية مزعومة ومكشوف زيفها، وينسبها للرئيس محمود عباس بزعم تورطه المباشر في ملاحقة الأسرى ودعوته للقبض عليهم وتسليمهم لإسرائيل، وهي فبركات مفضوحة ومن السهل تفنيدها من أي متابع موضوعي أو يعرف القليل عن برامج النشر والتحرير والصور، أو من كل صحفي أو مدقق مهني نزيه، لكن هذه الفبركات تساهم من دون شك بترويج ادعاء مفاده أن الفلسطينيين والعرب فاشلون لا محالة، وعاجزون عن صناعة أي انتصار وأية فرحة ولو رمزية، وأن المعركة قد حسمت والخراب عمّ وطمّ، وأن النصر مكتوب لإسرائيل وعملائها وأدواتها.

في الرد على ادعات هؤلاء ينبغي العودة إلى البديهيات التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات: الحرية قيمة أصيلة لدى كل إنسان، ولدت معه وستبقى الحلم الذي ينشده دائما له ولوطنه ولشعبه، فما بالكم مع أناس هم في الأصل طلاب حرية وسجنوا لأنهم ناضلوا من أجل حرية وطنهم وشعبهم، والإرادة الإنسانية قادرة على الإبداع وصنع المعجزات حتى في وجه أعتى القوى الغاشمة المسلحة بأحدث وأعقد ترسانات الأسلحة والتكنولوجيا، وكما أن الفرح يليق بالفلسطينيين والعرب فإن الحرية بمعناها الفردي والعام تليق بهم أيضا.