الصحة العامة .. وظاهرة "الاكتئاب" في المجتمع الفلسطيني

د.عقل أبو قرع.jpg
حجم الخط

بقلم: عقل أبو قرع

لفت انتباهي خلال الفترة القريبة الماضية الحديث عن ظاهرة مقلقة ومكلفة وحتى مدمرة، حيث إن ظاهرة الاكتئاب باتت تنتشر أو تزداد عند الفلسطينيين، وبالأخص عند الجيل الفلسطيني الشاب، ورغم أنه لا توجد إحصائيات أو بيانات رسمية، أي من الجهات المختصة وبالتحديد من خلال معلومات وزارة الصحة، حول الأعداد والأسباب والظواهر والأماكن للاكتئاب، ألا أن حديث الناس وبيانات غير رسمية تصدر من هنا ومن هناك، تؤكد بشكل أو بآخر ازدياد معدلات الاكتئاب ولو بدرجات متفاوتة في المجتمع الفلسطيني.
وعلى الصعيد العالمي، تعتبر ظاهرة أو بالأدق مرض الاكتئاب من أكثر الأمراض التي تؤرق الدول، وبالأخص في الدول المتقدمة أو الدول التي تعرف بدول العالم الأول، مثل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، وبالإضافة إلى النتائج المدمرة لمرض الاكتئاب عند العديد من الناس، إلا أنه يعتبر من اكثر الأمراض تكلفة للدول ولشركات التأمين الصحي، حيث معروف أن أدويته من الأكثر مبيعا في الدول المتقدمة.
ومرض الاكتئاب كغيره من الأمراض التي من الممكن الوقاية منها، أي من خلال التركيز وفي إطار مفهوم الصحة العامة على مبدأ الوقاية الشامل من خلال الرعاية الصحية الأولية والمتكاملة، أي توفير الظروف أو التعامل مع الأوضاع لمنع الإصابة وليس من خلال العلاج والتعامل مع تداعيات المرض المدمرة، وهذا ما تركز عليه الكثير من السياسات الصحية وغير الصحية في العالم، من خلال توفير الفرص والتوعية ومنع البطالة والحد من التفكك الاجتماعي والابتعاد عن أسباب الضغوط النفسية وما إلى ذلك.
ورغم أن مرض الاكتئاب يتشكل أو يتطور بفعل عوامل نفسية اجتماعية واقتصادية وتوتر وضغوط وما إلى ذلك، إلا انه حين يتشكل يعتبر مرضا عضويا، أي يتم التعامل معه كيميائيا من خلال التدخل الكيميائي أو الدوائي لإحداث تغيير كيميائي في أجسام أو بالأدق أدمغة مرضى الاكتئاب، وبالتالي توفير ظروف طبيعية من الناحية الكيميائية داخل الجسم، تؤدي إلى الابتعاد عن الأعراض والآلام التي يسببها مرض الاكتئاب.
وبسبب أهمية مرض الاكتئاب على الصعيد العالمي، فقد حددت منظمة الصحة العالمية عاما خاصا لهذا المرض من خلال الاحتفال بيوم الصحة العالمي، الذي يصادف السابع من نيسان من كل عام، والذي يتم الاحتفال به كل عام لمناسبة الذكرى السنوية لتأسيس منظمة الصحة العالمية، حيث تم الاحتفال به في العام 2017، تحت شعار «مرض الاكتئاب وأهمية الحديث عنه»، حيث اصبح تصاعد انتشار الاكتئاب في العديد من البلدان، وفي مقدمتها الدول المتقدمة، من المؤشرات الصحية المقلقة، ولمرض الاكتئاب تداعيات ليس فقط على الصحة النفسية والإنجاز والعمل للمصاب ولكن على الكثير من المهام الجسدية العادية.
ودون شك ان مرض الاكتئاب هو من الأمراض المزمنة، أو من الأمراض غير السارية، أي التي لا تنتقل عن طريق العدوى، وحسب المعلومات الصحية العالمية، فإن هذا المرض له علاقة مباشرة بازدياد نسب الانتحار أو على الأقل مع محاولات الانتحار على مستوى العالم، وان انتشار هذا المرض اصبح يتماشى مع أنماط الحياة  العصرية وما تفرزه من تسارع الأحداث وتصاعد الالتزامات والتوتر والقلق والخوف من المستقبل وضعف التعاضد أو التواصل الاجتماعي وانتشار الانعزال أو الوحدة وغياب الدعم بكافة أنواعه لأشخاص يحتاجونه، وبالتالي لا غرابة أن نسبة كبيرة من مرضى الاكتئاب هم من صغار السن أو من جيل الشباب وأن نسبه مهمة من مصابي الاكتئاب هم من النساء، وكذلك لا توجد غرابة وفي ظل الظروف التي نمر بها، أن يزداد هذا المرض في المجتمع الفلسطيني، وبالتحديد عند الشباب ومنهن النساء الشابات.  
وبعيدا عن الحالة النفسية لمرضى الاكتئاب، فإن من سمات مرضى الاكتئاب هو النقص في بعض المواد الكيميائية المفترض تواجدها بنسبة معينة في الدماغ وبالتالي الدم والجسم وبالأخص في محيط الخلايا، وهذه المواد ضرورية للحفاظ على الوضع أو على التوازن النفسي العادي للناس، وبالتالي فإن معظم أدوية الاكتئاب الحالية تقوم عملها على أساس الحفاظ على أو زيادة تركيز هذه المواد الكيميائية في الدماغ والدم وبالتالي الحفاظ على أوضاع نفسية وجسدية عادية للناس، ومن أهم هذه المواد الكيميائية الناقلات العصبية الضرورية للحفاظ على المزاج والاستقرار، مثل مواد «السيرتونين» والـ»نيو أدرنالين» و»الدوبامين» وغيرها.     
وبالتالي فإنه معروف ان «الاكتئاب» هو مرض يصاب الناس به عندما لا توجد كمية كافية من بعض هذه الناقلات العصبية وبالأخص مادة «السيرتونين» خارج الخلايا في الدماغ لكي تكون جاهزة للعمل، بحيث تقل كميتها عند مرضى الاكتئاب من خلال سحبها إلى داخل الخلايا وليس خارجها لكي تصبح متوفرة للعمل، وحين يتم إعطاء المريض أدوية الاكتئاب المعروفة عالميا، فإنها تعمل على منع سحب الخلايا لهذه المواد وبالتالي توفرها بنسبة تركيز ملائمة في الدماغ والدم والجسم.
وبعيدا عن تناول الأدوية المرتفعة الثمن، فإن توفير أسباب الوقاية لهذا المرض يعتبر الأساس لمقاومة مرض خطير ينتشر وبشكل كبير وخاصة عند أجيال مهمة مثل الشباب، ومنها العودة إلى ما كان يعتبر ميزة لمجتمع مثل مجتمعنا الفلسطيني وهو «رأس المال الاجتماعي» حيث التعاضد والتعاون بالاعتماد على الثقة ومن أجل العمل للجميع، وكذلك الابتعاد عن متطلبات الحياة العصرية والتي يصاحبها التوتر والقلق والارتماء نحو الماديات والتسابق غير الموضوعي والتكاليف وأنماط الغذاء العصرية، ولا عجب أن بعض الدراسات تربط ازدياد نسبة الاكتئاب مع السمنة أو مع الوزن الزائد.   
ورغم التزايد الحديث في هذا المرض عندنا، إلا أن مجتمعنا الفلسطيني لم يعان بعد وبشكل مخيف من مرض الاكتئاب، أسوة بما يجري في مجتمعات أخرى، ألا انه لا يمكن إنكار وجود هذا المرض أو امتداداته النفسية المختلفة، ورغم «الوصمة» التي ما زالت ترافق الإفصاح عن هذه الحالة في بلادنا، إلا أن المعطيات تشير وبوضوح الى تصاعد هذه الظاهرة ولو بأشكال ومستويات مختلفة، وان مجتمعنا الفلسطيني، وأسوة بالمجتمعات العربية الأخرى، اصبح يعاني من آفة انتشار وتصاعد الأمراض غير السارية وربما منها الاكتئاب، والتي لها علاقة بأنماط الحياة الحديثة، من تغذية وحركة ونشاط بدني، ومن ضغوط الحياة وتوتر وقلق، وتفكك اجتماعي وثقافي وتربوي وما إلى ذلك.
وفي ظل هذه الصورة المقلقة نسبيا في بلادنا، فإن الأهم في هذا المجال هو توفير مقومات الوقاية ومنع الإصابة بمرض الاكتئاب من الأساس، فبالإضافة إلى التوعية الصحية للمواطن، على الجهات الصحية الرسمية، ممثلة في وزارة الصحة اتباع سياسات صحية ملزمة وتطبيق برامج تثقيف صحي نفسي، وخاصة في أوساط الجيل الشاب، الذي يمثل الشريحة الأكبر لاحتمال انتشار «الاكتئاب»، ونحن نعرف أن مجتمعنا الفلسطيني هو بأغلبيته الساحقة مجتمع شاب يافع.