نفق الحرية وقضية الأسرى

cb711563-6873-413b-a77a-45e1da0c5150.jpeg
حجم الخط

بقلم: جمال زقوت

 

أظهرت عملية نفق الحرية التي تمكن خلالها ستة أسرى مناضلين من ولوج أبواب الحرية، ليس فقط قوة الإرادة ودقة التخطيط ‏ومدى القدرة على الصبر التي لا يضاهيها سوى مثابرة وصبر وعناد النمل، ولا أعتقد أن هناك كائنًا آخر يمتلك مثل هذه الإرادة ‏والتصميم في هذا الكون المليء بصراع أزلي مفتوح ولن يغلق بين قيم الحرية والعدالة مع الظلم والظلاميين، كما هو بين الحق في ‏الحياة وإرادة الاستشهاد في سبيلها وبين أعداء الشعوب وحقهم في الحياة والعدالة والكرامة الإنسانية‎.‎
‎ ‎
انشغل بعض المحللين منذ لحظة الإعلان عن نجاح عملية تحرير أسرى جلبوع الستة لأنفسهم وحتى اللحظة، بسؤال كيف نجحت ‏هذه الثلّة من أسرى الحرية في اختراق منظومة الأمن القمعية التي تتباهى بها حكومة الاحتلال وتقدم نفسها من خلالها كواحدة ‏من أكثر دول العالم تقدمًا وقدرة على إنتاج منظومات القمع الأمنية في السجون وأنظمة المراقبة والتجسس، كما انشغل البعض ‏الآخر من هؤلاء بوضع سيناريوهات مآلات هذه العملية، وقد غلب على هذه التحليلات، التي ابتعدت عن جوهرها كاشتباك بين ‏إرادتين، سيناريوهات تضخيم القدرة الاسرائيلية ومدى الانبهار “بالأفضلية والتفوق الاسرائيلي” لدرجة أن معظم تلك التحليلات ‏كانت تخلص إلى سيناريو إعادة اعتقال هؤلاء الأسرى أو سيناريو استشهادهم‎.‎
‎ ‎
فقط من عاش تجربة الاعتقال، وخاصةً تجربة التحقيق، يدرك مدى قدرة المناضلين على كسر ادّعاء مثل هذا “التفوق”، بل ‏والانتصار عليه، رغم الاختلال الواضح جدًا في ميزان القوة المادية بين أسير مقيّد القدمين واليدين ومعصوب العينين وبين ‏مؤسسة الاستخبارات بكل إمكانياتها، إلا أن ميزان قوة الإرادة يشكل معادلًا نوعيًا في ميزان القوى؛ فإرادة سلاح الصمت وعقد ‏اللسان ستتفوق وقد تفوقت آلاف المرات على كل مخزون وبنية الاستخبارات المعلوماتية وشبكاتها التجسسية. نعم، بهذه البساطة ‏يمكن خلق المقارنة والتركيز على طبيعة صراع الأسير، سيّما إذا امتلك وعي الصراع، وبأنه يمثل شعب يناضل ويستحق انتزاع ‏الحرية وبلوغ العدالة في مواجهة دولة الاحتلال القائمة على القمع والظلم والقتل والتشريد. إنه صراع الحق مع الباطل وصراع ‏الحرية مع مستلبيها كما هو صراع الحياة مع صُنَّاع الموت‎.‎
‎ ‎
حكاية نفق الحرية هي حكاية إرادة امتشقها وأعلن بها هؤلاء الأسرى بأن لهم الحق في الحرية والحياة، والتي دفعوا من أجلهما ‏أغلى سنوات عمرهم، كما دفع غيرهم من الشهداء حياتهم من أجل بلوغها وانتزاع هذا الحق الانساني والطبيعي في الحرية والحياة. ‏وقد لخّص المناضل العنيد زكريا الزبيدي هذه الحقيقة أمام “قضاة الاحتلال” بأنهم سيستمروا في مثل هذه المحاولة مرة ومرات؛ ‏فهو بهذه المقولة يلخص إرادة شعب لن يستسلم ولن ينكسر أمام غطرسة المحتلين ولا انحناء الباحثين عن الوهم في دهاليز ‏لقاءات العبث و”علاقات التنسيق”.‏
‎ ‎
وأما المسألة الأخرى التي خرجت إلى النور مع هؤلاء الأبطال من باطن أرض نفق الحرية فهي أن حرية الأسرى، والتي يجري ‏تغييبها عن جدول الأعمال رغم ما يسمى “بلقاءات التسهيلات وبحث العلاقات من كافة جوانبها”، كانت وما زالت تشكل ضمير ‏النضال الوطني، ولا بدّ من اجتراح كل المعجزات لإبقائها حيّة على جدول أعمال هذا النضال، وكعلامة فارقة لحيويته، وليس ‏للتعامل مع استحقاقات الأسر فقط على أهميتها، رغم ما تتعرض له من هجوم شرس يهدف بجوهره لتجريم مجرد رفض الاحتلال ‏والنضال المشروع لدحره. فعملية نفق الحرية، والتي لم تنتهِ تداعياتها بعد، أعادت أهمية طرح مكانة الأسرى الفلسطينيين ‏وضرورة توظيف كل علاقات شعبنا الدولية والدبلوماسية من أجل انتزاع حق هؤلاء الأسرى كونهم أسرى حرب؛ فهذا مكون من ‏مكونات معركة انتزاع الحق في تقرير المصير التي ضحّى ما يزيد عن سبعمائة ألف فلسطيني بجزء من أعمارهم في زنازين ‏الاحتلال وأقبية التحقيق، كما قدّم عشرات الآلاف أرواحهم من أجل انتزاع هذا الحق المقدس والتمكن من ممارسته بكل أبعاده.‏

الأمر الأخير الذي أبرزته هذه العملية هي وحدة أرض المعركة وعليها تتوحد إرادة الشعب في صراعه المتواصل من أجل الحرية، ‏وما تتطلبه هذه الحقيقة من بحثٍ جدّيّ لبلورة حركة وطنية متجددة تعكس وحدة الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وتجمعاته والتفافه ‏حول قضيته الواحدة، ومدى حاجته لقيادة وطنية موحدة وجسورة تتناسب مع تضحيات شعب فلسطين، وجرأة هؤلاء الأبطال، ‏لتُصَوِّب مسيرة كفاحه وتعيد بناء حركته الوطنية برؤية جديدة مستفيدة من مراجعة جادة للمرحلة السابقة، وتقودها نحو ‏نصر ٍأكدت هذه العملية، ليس فقط إمكانية تحقيقه، بل ومدى حاجة الشعب الموحد لمثل هذا النصر، مهما بدا صغيرًا، ولكنه ‏يؤسس ويراكم لمرحلة الخلاص من الاحتلال وغطرسته واستيطانه وسجونه، وهذا هو الدرس الأهم.‏