إسرائيل تستعد لما بعد تسلّح إيران بالنووي

445632D2-14E2-479E-9CF6-02AB1DEB5275-e1593868222890.jpeg
حجم الخط

بقلم  جمال زحالقة 

 

أربك تقرير صحيفة «نيويورك تايمز» حول أن إيران أصبحت قادرة، خلال شهر واحد، على أن تنتج ما يكفي من المواد المشعّة لصناعة رأس نووي واحد، المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين، الذين لم يملكوا إجابة مقنعة حول ما هم فاعلون إزاء هذا التطوّر، الذي يقترب بخطى سريعة وحثيثة، والذي حذّروا منه مرارا وتكرارا ووعدوا بالعمل على منعه ولوّحوا بالتهديد والوعيد إن اخترقت إيران نقطة «اللاعودة» في مشروعها النووي.

هناك فرق بين موقف الولايات المتحدة، التي ترفض بشدّة أن تكون عند إيران مثل هذه القدرة، لكنّها حددت بأن الخط الأحمر هو منعها من إنتاج فعلي لسلاح نووي، وموقف إسرائيل التي وضعت خطّاً أحمر أمام وصول الجمهورية الإسلامية إلى قدرة على إنتاج رؤوس وقنابل ذريّة. وعلى الرغم من التباين في الموقف المعلن وغير المعلن، جاء الرد الأمريكي والتعقيب الإسرائيلي على النشر في تناغم، ربما يعكس تنسيقا مسبقا، فقد صرّح متحدث باسم الخارجية الأمريكية أن «استمرار إيران في التصعيد النووي غير بنّاء ويتعارض مع هدفها المعلن بشأن العودة إلى الامتثال المتبادل لخطة العمل الشاملة». وأضاف أن «هذه الخطوات لن توفّر لإيران أي مزايا في المفاوضات» في إشارة إلى التحليلات بأن إيران معنيّة بتشكيل ضغط على الولايات المتحدة للإسراع بقبول شروطها، خشية حصول تقدّم إضافي في المشروع النووي الإيراني، غير مرغوب فيه أمريكيا.

أما وزير الخارجية الإسرائيلي يئير لبيد، فقد حاول إزاحة الخط الأحمر الإسرائيلي عن موقعه الأصلي قائلا «دعنا لا نثير الهلع» فإيران بعيدة عن الوصول إلى السلاح الذرّي الفعلي، والأمر بحاجة إلى أشهر طويلة. وقام بهذا بإلحاق الموقف الإسرائيلي بالموقف الأمريكي عبر تحديد «التهديد» بامتلاك الرؤوس النووية، وليس بالضرورة في إنتاج الوقود الكافي لصناعتها. تبدو محاولة تهدئة الخواطر، إذا صح التعبير، غريبة عن الخطاب الإسرائيلي في الشأن الإيراني، فقد تميّز هذ الخطاب بالترويع والهستيريا والمبالغة في تصوير «الخطر الاستراتيجي» وحتى بربط «التهديد الوجودي» الإيراني بالمحرقة النازية. ويبدو أن القيادة الإسرائيلية في مرحلة ما بعد نتنياهو بدأت تستوعب المخاطر الكامنة في خطاب الهلع، وبالأخص بأنّه يضع إسرائيل كمكان خطير للحياة فيه، ما يضر باجتذاب المهاجرين اليهود إليه، وكمحيط غير مستقر للاستثمار الاقتصادي، وبالتالي يضعف الاقتصاد الإسرائيلي ويجعل الكثيرون يبتعدون عن التعامل معه. حاولت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية التقليل من أهمية ما جاء في تقرير «نيويورك تايمز» عبر تسريبات للإعلام مفادها، أنه حتى لو كان عند إيران كميات كافية من الوقود لصناعة رأس نووي، فإن صناعة هذا الرأس وتركيبه على صاروخ ملائم يحتاج إلى تقنيات عالية ومعقّدة لا تملكها إيران حاليا وهي بحاجة إلى أكثر من سنة لأجل ذلك، وجاء في التسريبات الأمنية ما مفاده حسب المعلومات الاستخباراتية، أن القيادة الإيرانية ما زالت بعيدة عن اتخاذ قرار بالدخول إلى مسار الإنتاج الفعلي للسلاح النووي، الذي قد يواجه بردود فعل قوية وحتى عنيفة من الولايات المتحدة وغيرها. وفق التقديرات، تستبعد إسرائيل عودة سريعة إلى الاتفاق النووي، وتستعد لسنوات طويلة بلا اتفاق، تواصل إيران خلالها «الزحف نحو القنبلة النووية» كما جاء على لسان مسؤولين أمنيين إسرائيليين رفيعي المستوى، وإذ وضعت إسرائيل هدفا معلنا بالتصدّي للمشروع «النووي الإيراني» فهي تجد نفسها أمام أربعة خيارات للتعامل مع الموضوع:

الخيار الأوّل وقف التطوير العسكري للمشروع النووي الإيراني عبر مفاوضات وإغراءات وعقوبات. وأكثر ما تشدّد عليه إسرائيل هو العقوبات وهي تدعي بان العقوبات على إيران غير قاسية بما فيه الكفاية، وأنها يجب أن تكون أشدّ وأن تشمل جميع دول العالم، وأن تفرض عقوبات على من لا يلتزم بها. وبعد أن يرقص العالم بأسره على نغمات الناي الإسرائيلي، عندها من الممكن أن تتراجع إيران عن مشروعها النووي، كما يحلم الحالمون في الدولة العبرية. لكن وعلى الرغم من كل ما يقال بهذا الشأن فإن الكثير من الخبراء الأمنيين والسياسيين في إسرائيل يضعون علامات استفهام كبيرة حول نجاعة هذا الخيار، فالعقوبات لا تدوم طويلا وإيران أثبتت قدرتها على تحمّل تبعاتها.

الخيار الثاني، هو توجيه ضربات عسكرية إلى المنشآت النووية الإيرانية من قبل إسرائيل وحدها، أو بالمشاركة مع الولايات المتحدة وغيرها. وهنا يشير استراتيجيون إسرائيليون جديون إلى أن هذا الأمر في غاية الصعوبة، لأن إيران قامت بتوزيع مرافقها الذرية في مواقع كثيرة ومتعددة وأخفت معظمها تحت الأرض. وتستغل إسرائيل الترويج لـ»الخيار العسكري» للحصول على المزيد من الدعم الأمريكي تحت يافطة بناء قدرة عسكرية ضاربة رادعة لإيران. أمّا من الناحية العملية الواقعية فاحتمال الضربة الإسرائيلية بعيد واحتمال تحقيق الأهداف أبعد.

الخيار الثالث، هو خيار «مسكوت عنه» ولا تؤمن به سوى قلّة من النخب السياسية والأمنية في إسرائيل، وهو التوصّل إلى اتفاق شامل لجعل الشرق الأوسط منطقة منزوعة من السلاح النووي بما فيها إسرائيل نفسها. حاليا لا يطرح أحد هذا الخيار، ولا حتى من لهم مصلحة به وتحديدا العرب، الذين لا يملكون سلاحا نوويا رادعا مثل إسرائيل، ولا مظلّة تحميهم كما يحمي حلف «ناتو» دولة مثل تركيا. ترفض إسرائيل بشدّة أي حديث عن سلاحها النووي، الذي جرى تطويره ضد العرب أصلا، وكان موجودا قبل الثورة الإيرانية، وقبل أي ذرّة حديث عن ذرّة في إيران. وحتى لو وافقت إيران على شرق أوسط منزوع من أسلحة الدمار الشامل، فإسرائيل لن توافق لأن سلاحها الاستراتيجي موجه ضد أطراف أخرى بالدرجة نفسها وربّما أكثر.

الخيار الرابع، هو خيار لا يجري الحديث عنه في العلن، وهو التسليم بإيران نووية وتركيز الجهود على مرحلة ما بعد ذلك. ويستند هذا الخيار إلى الرأي بأن إسرائيل غير قادرة على منع إيران من امتلاك سلاح نووي وعليها تدبير أمورها في مناخ أمني استراتيجي مختلف عما هو قائم حاليا، وعليه فهي تدرس خطوات عديدة منها:

1ـ القيام بحملة لـ»إقناع» إيران بأن هجوما صاروخيّا مصيره الفشل لأنه سيواجه بصواريخ «حيتس ـ سهم» المضادة للصواريخ، وعليه الأفضل لها عدم الإقدام على مثل هذه المغامرة.

2ـ الحصول على مظلّة حماية دولية عبر الانضمام إلى «ناتو» وعبر إقامة حلف استراتيجي مع الولايات المتحدة، وبناء قوّة ردع إسرائيلية تستند إلى القوّة الذاتية، وإلى إعلان واضح بأن أي هجوم على إسرائيل سيكون الرد عليه من قبل القوّة الضاربة للولايات المتحدة وحلف الأطلسي.

3ـ التوصل إلى تفاهمات مباشرة وغير مباشرة مع إيران، والاتفاق على «قوانين لعبة» مشتركة ومقبولة للطرفين لمنع تدهور غير مقصود نحو مواجهة نووية.

4 ـ إشهار امتلاك أسلحة نووية، ووقف سياسة «الضبابية» التي تتبعها إسرائيل منذ عشرات السنين.

5 ـ العمل مع الولايات المتحدة وغيرها لمنع إنتاج سلاح نووي في بلاد مثل مصر والسعودية وتركيا وسوريا والعراق.

6 ـ تقسيم العالم العربي بين دول تحت الحماية الإيرانية وأخرى تحت الحماية الإسرائيلية.

7 ـ العمل على تعزيز الردع الإسرائيلي المباشر عبر تطوير دراماتيكي في القدرات العسكرية الهجومية، وقد ظهرت بوادر ذلك في الميزانية العسكرية الجديدة، ورفع مستوى المنظومات الدفاعية، وضمان القدرة على «الضربة الثانية» سواء من البر أو عبر الغواصات المتطوّرة، التي حصلت عليها إسرائيل من ألمانيا.

لقد بدأت إسرائيل التحضيرات لحصول إيران على سلاح نووي ويتزايد الإدراك بأن هذا هو الخيار الأرجح، وأنه لن يكون بإمكان إسرائيل منع هذا التطوّر، إلّا بثمن لا تريد أن تدفعه وهو التخلّي عن سلاحها النووي. أمّا من الناحية العربية فالمصلحة القومية العليا لكل الدول العربية هي منطقة شرق أوسط خالية من السلاح النووي، وأوّلا السلاح الإسرائيلي، الذي سيبقى تهديدا استراتيجيا حتى لحلفاء إسرائيل العرب. وإذ تستغل إسرائيل «بعبع» التهديد الإيراني لتوسيع تحالفاتها وزيادة نفوذها في العالم العربي، فإنّ التجاوب مع ذلك سيؤدّي للمزيد من التوتّر مع إيران، التي لا حاجة موضوعية لمعاداتها، ويمكن التفاهم معها في إطار إقليمي يشمل تركيا ويعزل إسرائيل. آن الأوان أن يتحرّك العرب ويكفّوا عن سياسة انتظار ما يفعل غيرهم، ولعل الأولوية هذه الأيام هي لمبادرة نزع السلاح النووي من المنطقة، وبداية من إسرائيل، التي هي وحدها تملك هذا السلاح حاليا. أي تباطؤ في المبادرة ستدفع ثمنه الباهظ الأجيال الحالية والقادمة. لم يعد مكان للصمت على الصمت العربي بشان النووي الإسرائيلي.

 * رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48 .