محرّكات التصعيد في الضفّة وغزة: في انتظار الرد الإسرائيلي

رون بن يشلي.jpeg
حجم الخط

بقلم: رون بن يشاي*


التصعيد التدريجي على الجبهتين الفلسطينيتين [قطاع غزة والضفة الغربية] حقيقة قائمة، ويبدو أنه ذاهب نحو المزيد من التأجيج. وهو نابع من جملة من الأسباب والعوامل: السبب الأول هو الأعياد العبرية التي تصادف هذه الأيام. هذا ليس خطأ، لأن الأعياد العبرية في الشارع اليهودي في القدس، وخصوصاً بين اليهود الحريديم تثير موجة مضادة من الحماس والتشدد الدينيين بين المسلمين في القدس الشرقية، كما في أنحاء الضفة الغربية كلها. الحضور اليهودي المكثف باللباس التقليدي، وحركتهم المتزايدة في أحياء القدس وشوارعها، وحركة السياح في الضفة الغربية، كلها عوامل تستثير الشارع الإسلامي المتدين وتؤلبه ضد اليهود.
هذا هو السبب وراء التصعيد الذي حدث في فترة الأعياد العبرية في خريف 2015، وكذلك في مناسبات أُخرى غيرها. ليس هذا هو السبب الوحيد، لكنه سبب مهم ومن المهم إدراك حقيقة وجوده.
العامل الثاني المسبب للتصعيد هو فرار الأسرى الستة [من سجن جلبوع]، والذي يوحد الفلسطينيين في الضفة الغربية والفلسطينيين في قطاع غزة، وخصوصاً قيادة "الجهاد الإسلامي" في غزة. فإن نجاح عملية الفرار من السجن، والتي خلقت حالة من النشوة بين الفلسطينيين، ثم إلقاء القبض على أربعة من الفارين الستة الذي سبّب حالة من الإحباط وخيبة الأمل، إلى جانب القلق على مصير الإثنين الأخيرين منهم - هذه كلها تولد في الشارع الفلسطيني حالة قابلة للانفجار في أي لحظة، تذكيها أبخرة الوقود التي كانت تملأ الشارع الفلسطيني أصلاً، قبل عملية هروب الأسرى من السجن.
السبب الثالث هو المشكلة التي تعترض تسلُّم حركة "حماس" الأموال القَطَرية لدفع رواتب موظفي سلطتها في قطاع غزة، والذين يبلغ عددهم 26 ألفاً. "حماس" ذاتها تعبّر عن الإحباط الذي تعانيه في هذه المسألة، وتحاول ابتزاز إسرائيل بوساطة البالونات الحارقة، وإطلاق القذائف على السكان اليهود في المنطقة المحاذية لقطاع غزة وإزعاجهم ليلاً. غير أن هذا الإحباط يدفع "حماس" أيضاً إلى غض النظر عن الصواريخ التي تطلقها حركة الجهاد الإسلامي من قطاع غزة. فقيادة هذه الحركة تعتبر أنها ملزَمة بالتعبير عن دعم الأسرى الفارّين ومحاولة ردع إسرائيل، من خلال التهديد بإطلاق الصواريخ على المنطقة الجنوبية منها، وجرّها إلى معركة جديدة في توقيت غير مريح لإسرائيل.
هذه هي المحركات الأساسية التي تغذي التصعيد ويمكن أن نضيف إليها أيضاً حقيقة أن إسرائيل غير معنية بالدخول في مواجهة كبيرة في قطاع غزة، خلال الأسبوعين القريبين على الأقل. "يوم الغفران"، ثم "عيد العُرش"، بالإضافة إلى جائحة كورونا هي أسباب وجيهة تجعل دولة إسرائيل معنية بإرجاء المعركة في قطاع غزة خلال الأسابيع القريبة، على الرغم من القناعة المتزايدة في إسرائيل بأنه لا مفر من خوض هذه المعركة الجديدة. وقد جرى، على ما يبدو، توضيح هذه الحقيقة أمام الرئيس المصري السيسي، خلال لقائه الأخير مع رئيس الحكومة بينت. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مصر تلعب دوراً كابحاً تجاه حركة "حماس"، لكن تجاه دولة إسرائيل أيضاً، وليس لدى إسرائيل أي رغبة في الدخول في مواجهة مع مصر في هذه المرحلة. سنكون في حاجة ماسة إلى مصر بعد المعركة الكبيرة في قطاع غزة ومن مصلحتنا المحافظة على التنسيق التام معها حتى النهاية.
بالمناسبة، الرئيس المصري وجّه إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية دعوة إلى عقد لقاء رسمي وعلني، الأمر الذي لم يفعله مع نتنياهو، سعياً منه إلى شق طريق نحو قلب [الرئيس الأميركي] بايدن وإدارته في واشنطن. اللقاء في شرم الشيخ كان يرمي إلى تمكين السيسي من عرض عودة مصر إلى موقع القيادة النشطة والمؤثرة في العالم العربي، وإلى تكريس مكانة مصر كلبِنة أساسية في المعسكر الموالي للغرب في الشرق الأوسط بصورة أساسية.
عليّ هنا أن أناقض نفسي بالقول إن تحليل العوامل المسببة للتصعيد الحالي بيننا وبين الفلسطينيين على جبهتي الضفة الغربية وقطاع غزة ليس هو المهم، وإنما المهم فعلاً هو ما ستفعله إسرائيل بعد انتهاء الحالة الراهنة، سواء من خلال مواجهة عسكرية كبيرة وشاملة أو من خلال تسوية سياسية.
ثمة مصلحتان مهمتان لدولة إسرائيل اليوم في السياق الفلسطيني الغزّي. المصلحة الأكثر أهمية هي منع تعاظُم حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" للحيلولة دون نشوء وضع تستطيعان فيه، كلما رغبتا في ذلك أو كلما أرادتا ابتزاز دولة إسرائيل، ودفع السكان في المنطقة المجاورة لقطاع غزة، بل مواطني إسرائيل الآخرين أيضاً، إلى الركض نحو الملاجئ والغرف المحصنة، سواء كان قصفاً ليلياً أو زخات من الصواريخ على تل أبيب.
طالما بقيت حركة "حماس" تمتلك القدرة على القيام بذلك - ويجب الاعتراف بأنها و"الجهاد الإسلامي" تمتلكان القدرة على التصعيد الشامل وتشويش مجرى الحياة الطبيعية في دولة إسرائيل متى أرادتا - فلن تنعم دولة إسرائيل بالهدوء، سواء أكان الوضع الاقتصادي والاجتماعي في قطاع غزة جيداً، بل جيداً جداً، أو سيئاً. فهاتان الحركتان، اللتان تديران دفة الأمور في قطاع غزة الآن، لا تتأثران بأوضاع الناس هناك، ولديهما دوافع ومصالح خاصة بهما، وطالما ظلت لديهما القدرة على المس بإسرائيل وتشويش مجرى الحياة الطبيعية فيها، وعلى ممارسة وسائل الضغط على الحكومة الإسرائيلية، فلن تترددا في القيام بذلك.
بناء على ذلك، ومن أجل تحقيق هدوء طويل المدى، لن يكون كافياً تنظيم الوضع الاقتصادي في قطاع غزة، بل يجب التنسيق والتعاون مع مصر من أجل الوصول إلى وضع لا تستطيع فيه هاتان الحركتان تعزيز قوتهما أكثر. لكن قبل ذلك، يجب حرمانهما من كل أوراق القوة التي بين أيديهما. وطالما لم يتحقق هذا، سنبقى محكومين بجولات أُخرى ومتكررة من المواجهة العسكرية. في هذا السياق، شكلت حملة "حارس الأسوار" في أيار الماضي بداية جيدة لهذه العملية المطلوبة، لكن الهدف الأكبر لم يتحقق، وهو ما يرسخ القناعة لدى قادة الجيش والأجهزة الأمنية الأُخرى بأنه لا مناص، كما يبدو، من دخول الجيش الإسرائيلي إلى قطاع غزة لتنفيذ عملية وقائية تمنع تعاظُم "حماس" و"الجهاد الإسلامي".
    الهدف ليس القضاء على "حماس"، ولا على "الجهاد الإسلامي"، ولا تدمير سلطتهما، وإنما تدمير قدراتهما ومنع إعادة بنائها من جديد. والهدف الاستراتيجي الثاني الذي تسعى إسرائيل لتحقيقه على الجبهة الفلسطينية هو ضمان الهدوء لسكان الجنوب وللمستوطنين في الضفة الغربية، والذين تتحمل دولة إسرائيل المسؤولية عن أمنهم وأمانهم. هذا الهدوء يمكن تحقيقه بتحسين الوضع الاقتصادي، في قطاع غزة وفي الضفة الغربية على حد سواء، لكن قبل ذلك يجب سلب الغزّيين القدرة على إزعاج دولة إسرائيل وتشويش مجرى الحياة الطبيعية فيها، وخصوصاً في منطقة الجنوب. يبدو أن هذه هي صورة الوضع الحالي، ويجب أن تكون هذه الأهداف على رأس سلّم أولويات دولة إسرائيل خلال الفترة القريبة المقبلة، وربما كانت هذه هي الطريق فعلاً للتحرر من الحاجة إلى خوض جولات متكررة من المواجهات العسكرية الآخذة في الاتساع باستمرار من دون تحقيقها أي هدف استراتيجي حقيقي، من وجهة النظر الإسرائيلية.

عن موقع "واي نت"