ما تزال فترة الحكم العسكري الذي استمر من عام 1948 وحتى عام 1966، هي الحقبة الأكثر عتمة في التاريخ الفلسطيني الحديث، أوّلا لشحّ المواد الأرشيفية المرتبطة بتلك الفترة التي أفرجت عنها إسرائيل، وثانيا لوقوعها بين حدثين تاريخيين كبيرين، لفتا انتباه المؤرخين والباحثين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ هما النكبة والنكسة أو النكبة والثورة.
في ما يتعلق بالسبب الأول، ورغم أن القانون الإسرائيلي يجيز الإفراج عن الوثائق التاريخية السرية بعد مرور 50 عاما، فإن السلطات الإسرائيلية ما زالت ترفض الكشف عن الكثير من البروتوكولات والوثائق المتعلقة بالنكبة وفترة الحكم العسكري، حتى أنها عادت وأخفت بعض هذه الوثائق التي سبق وأن أفرجت عنها استنادا إلى القانون المذكور.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، ترفض إسرائيل حتى اليوم، الإفراج عن صور ووثائق تخصّ مجزرتَي دير ياسين وكفر قاسم، رغم مرور 70 عاما على ارتكابهما، لما قد يلحقه ذلك من تشويه لصورتها وسمعتها في المحافل الدولية، وما قد يكشفه من حقائق تتعلق بالأطراف الضالعة في تنفيذهما، وبالأهداف السياسية المرتبطة بهما.
وتنبع أهمية فترة الحكم العسكري، ليس فقط من كونها الحقبة التي استكملت فيها إسرائيل مخططها الذي توج بالنكبة والتطهير العرقي، من خلال منع عودة اللاجئين والاستيلاء على أراضيهم وعقاراتهم فقط، بل في كونها الحقبة التي بلورَتْ فيه سياستها تجاه ما تبقى من أقلية فلسطينية، بعد اقتلاع الغالبية.
هذان البُعدان يَبرُزان بوضوح في الشذرات التي يجري الكشف عنها بين الحين والآخر من وثائق وبروتوكولات تخص تلك الفترة، والتي تكشف الأسباب الحقيقية لفرض الحكم العسكري، وإبقائه فترة 18 سنة، رغم أن تقارير “الشاباك” الذي كان يُعرف في حينه باسم الـ”شين بيت”، أفادت منذ الخمسينيات؛ بعدم وجود خطر من الأقلية الفلسطينية التي بقيت بعد النكبة.
الوثائق التي جرى الإفراج عنها مؤخرا في أعقاب توجُّه معهد “عكفوت” وتناولها المؤرخ آدم راز في مقال نشرته “هآرتس”؛ كشفت عن النقاش الذي كان يدور في رأس الهرم السياسي، حول مصير ما تبقى من فلسطينيين تحت سلطة الدولة العبرية، بين من كانوا يرجّحون استكمال التطهير العرقي وانتظار ظروف عسكرية مواتية لإجراء عملية ترانسفير، وهو الرأي الذي كان يمثّله بن غوريون وديّان، وبين الرأي الأكثر اعتدالا الذي مثّله وزير الخارجية، موشيه شاريت.
وفي محور بلوَرَة السياسة الإسرائيلية تجاه الأقلية الفلسطينية بحكم الأمر الواقع، يكشف بروتوكول من عام 1960 عن توجه واضح لإبقاء الفلسطينيين في إسرائيل في أدنى درجات السلم، بغية تسهيل إلحاقهم بالمجتمع الإسرائيلي، ويورد على لسان القائد العام للشرطة قوله: “لم نصل بعد حدود الظلم المطلوب ضدهم، ويجب الهبوط بهم إلى أدنى المستويات لكي لا نفتح شهيتهم”.
بينما يورد على لسان رئيس “الشاباك”، عاموس منور، دعوته إلى الحفاظ على النظام العائلي التقليدي واستخدامه كأداة سيطرة سهلة، والعمل على إبطاء سرعة تطوُّر الفلسطينيين في إسرائيل وإعاقة تكوّن طبقة من المثقفين بينهم، قد تسبب مشكلة مستقبلية لإسرائيل، بعكس من وصفهم بأَنصاف المثقفين.
أما الحاكم العسكري فربين فقد كان أكثر صراحة عندما قال كما هو وارد في البروتوكول المذكور: “لقد طردنا نصف مليون عربي، حرقنا بيوتا وسرقنا أراضيهم، لم نسترجعها كما ندعي، نحن نريد أن نقول للعرب: افرحوا بما فعلناه بكم، لكننا سرقنا الأرض وما زلنا نسرقها، تحت ادعاء ’إنقاذ الجليل’”، وبرأيه فإن اختلاق كارثة حربية يجري تحت دخانها طرد العرب، لن يحدث. ولذلك لا يمكن التنبؤ بما يخبّؤه المستقبل. فربين رفض حصر الموضوع بالحكم العسكري فقط موجها سبّابته نحو دولة إسرائيل ومؤسساتها، ونحو المشروع الاستيطاني اليهودي برمّته ووحشيّته تجاه العرب.