الدوحة لا تقبل بالقليل … ماذا عن أبو ظبي والرياض؟

520A6E83-845F-4241-96EB-0FAA03EC69D3-e1601557406237 (1).jpeg
حجم الخط

بقلم عريب الرنتاوي 

 

 تحولت العاصمة القطرية خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، إلى قِبلة جديدة للحجيج الأمريكي – الأوروبي – العالمي…لم يبق مسؤول أمني – عسكري أو سياسي واحد في عواصم الغرب عموماً، إلا ويَمم وجهه شطر الدوحة، وكال لها الثناء والمديح وقرأ على مسامع كبار المسؤولين فيها، آيات من التقدير والامتنان…مثل هذا الإنجاز، لا تحظى به الدوحة عادة، بل وليس في متناول أية عاصمة عربية أو إقليمية أخرى.

ولكي نضع الأمر في سياقه، لا بد من الإشارة إلى ما سبق لنا أن وصفناه على أنه عملية “إعادة تعريف” لدور قطر الإقليمي والدولي، بوصفها “وسيطاً” في الأزمات، وليست طرفاً خشناً فيها، وباعتبارها “منصة” للحوار والقنوات التفاوضية الخلفية، بعد أن كانت “غرفة عمليات” تُدار منها أعنف وأطول “حروب الوكالة” التي ازدهرت في طول الإقليم وعرضه مع اندلاع انتفاضات “الربيع العربي” وثوراته.

هذه “النقلة” في الموقف والموقع القطريين، تليق بدولة صغيرة تتوفر على موارد كبيرة، ولقد رحبنا بها، ولطالما دعونا كلٍ من قطر والإمارات على حد سواء للأخذ بها…فالقوة الناعمة، قوة الوساطة و”المساعي الحميدة”، هي التي تعطي بلداً شقيقاً كقطر، مكانتها واحترامها الدوليين، في حين أن طموحات الهيمنة والأدوار الإقليمية الفائضة عن قيود الجغرافيا والديموغرافيا، لم تكن ضرباً من “أضغاث الأحلام” فحسب، بل وكانت مكلفة للغاية، ووضعت الدولة الصغيرة، في قلب دائرة استهداف رسمي وشعبي على امتداد العالم العربي من مائه إلى مائه.

لكن والحق يُقال، أن قطر نجحت في كلتا الحالتين في أن تكون “محوراً” و”محركاً”، لكأن الدوحة تأبى القبول بالقليل، ولقد ساعدها على ذلك، توفرها على ذراعين طويلين وقويين جداً: المال والإعلام، إلى جانب ذراعا الدبلوماسي المرن والطويل والذكي كذلك…وأحسب أن قول هذا “الحق” لا يكتمل من دون التشديد على أن مكاسب الدوحة من دورها “الناعم” تفوق بكثير أي مكسب قد تكون حققته باعتماد “القوة الخشنة” و”السياسة التدخلية”، هذا إن كانت هناك مكاسب من أي نوع.

وإذ تحولت أفغانستان إلى “الأزمة الدولية الأهم” منذ غزوتي أفغانستان والعراق، المترتبتين على غزوة “منهاتن”، فإن قطر بما لها من علاقات مسبقة مع طالبان والولايات المتحدة، ستجد نفسها “عاصمة للحراك السياسي والدبلوماسي العالمي”، ومحطة إلزامية لكل من أراد البحث في أي شأنٍ من شؤون هذه الأزمة وشجونها، والمرجح أن يظل الحال كذلك لسنوات قادمة، طالما أنه من غير المنظور إيجاد فرص سريعة لتجسير فجوة الخلاف الدولي مع طالبان، وجسر فجوة الغذاء والدواء التي تعتصر معظم الأفغان، وتتهدد بلادهم ومحيطهم والعالم، بحالة من انعدام الأمن والاستقرار.

ولا تكف الدوحة عن تقديم نفسها كوسيط “نزيه” في نزاعات إقليمية ودولية من “العيار الثقيل”، مدفوعة بـ”قصة نجاح” أفغانية، فهي تتقدم من الرياض وطهران بعرض وساطة، ولا تستبعد دورها كناقل رسائل بين حماس وواشنطن، وبين حماس وإسرائيل، وهي سبق لها أن احتضنت حوارات وتفاهمات فلسطينية داخلية، وعلى أرضها أُنجز اتفاق الدوحة اللبناني، وليس مستبعداً أن تحذو فصائل وحركات حذو طالبان في السير على خطى “التفاوض” من أجل الوصول إلى السلطة في بلدانها، بموازاة “كفاحها” أو “جهادها” المسلح لتحقيق هذا الغرض…هذه الحالة لا تقتصر على حماس، بل قد تمتد لهيئة تحرير الشام وربما إلى الشباب الصومالي، وهي حركات ليست بعيدة كثيراً عن طالبان، فيما ديناميات الحرب على الإرهاب مرشحة لأن تأخذ منحى جديداً في ضوء مفاعيل “مبدأ بايدن” في السياسة الخارجية وسابقة “السيناريو الطالباني”.

وإذ يثير النشاط القطري المحموم، سؤالاً حول “الدور السعودي” الغائب أو المُغيّب، فإن عوامل المنافسة ومشاعر “الغيرة” تكاد تأكل جارتها وشقيقتها “اللدودة”: الإمارات، التي يسعى إعلامها جاهداً، وغالباً بصورة مثيرة للشفقة، للحاق بالركب القطري، والحصول على “حصة ما” من كعكعة الإشادة والمديح والثناء…لكن أبو ظبي، بخلاف الدوحة، تحصد نتائج متواضعة للغاية، وتكاد تخرج من المولد بحفنة قليلة من الحمص.

ولقد شهدنا على مسعى إماراتي لاستلحاق ما يمكن استلحاقه، إن بتسيير قوافل مساعدات لأفغانستان أو عرض ملاذات آمنة لأشرف غني وكبار أركان نظامه المنهار، أو في انفتاحها المفاجئ، رفيع المستوى، على كل من الدوحة وأنقرة…الإمارات أيضاً، وبخلاف السعودية هذه المرة، تتميز بمرونة دبلوماسيتها، وهي تنعطف بسرعة أي مركبة صغيره بدرجة 360 درجة، وربما حول نفسها، في حين تقتضي السعودية، “القاطرة والمقطورة” لمساحة أكبر وزمن أطول، لاستحداث استدارة مماثلة…على أن الخلاف الناشئ والتوتر الملحوظ في العلاقات بين الرياض وأبو ظبي، أو بالأحرى بين نيوم ودبي، قد يسرّع حركة الدولتين الحليفتين في “عاصفة الحزم”، نحو مزيدٍ من التحولات والاستدارات، كما أن “الشيك الأمريكي الممهور بخاتم ترامب على بياض” لزعيمي البلدين، لم يعد صالحاً، بل وبات شيكاً من غير رصيد، وهذا أمرٌ له ما بعده.

على أن التحولات القطرية ما زالت تقف عند أبواب دمشق، فالموقف القطري من الأزمة السورية ما زال على حاله قبل عشر سنوات، وهو أمر سيكبل الدور القطري الجديد، ويضع عوائق وعراقيل في طريق تطويره ومدّه على استقامته…في حين أن الموقف الاستئصالي الذي تتبناه أبو ظبي من مختلف حركات الإسلام السياسي، الإخوانية بخاصة، سيظل يشكل كابحاً لتحولاتها اللاحقة، وقيداً على مساعيها اللحاق بالركب القطري…أما الانكفاء السعودي، فيحتاج لبحث آخر.

*مدير مركز القدس للدراسات السياسية. كاتب ومحلل سياسي.