جاء كشف النقاب يوم الإثنين الماضي عن شراكة أمنية جديدة في آسيا تضم إلى جانب أميركا كلا من بريطانيا وأستراليا، لينبئ ببدء مرحلة جديدة فيها، تخطت مرحلة تحديد الأهداف ووضع الخطط، ودخلت مرحلة التنفيذ. ورغم أن هذا التحالف الأمني الجديد في آسيا الذي عرف بتحالف «أوكس» ليس الأول، الا أنه الأكثر خطورة، لأنه يشير إلى احتمال مواجهة عسكرية، بخلاف التحالفات السابقة. جاء التحالف الأول في منطقة آسيا خلال الحرب الباردة عام ١٩٥١، بهدف التعاون العسكري البحري في المحيط الهادي، وضم بالإضافة إلى أميركا كلاً من أستراليا ونيوزيلندا، بينما كان التحالف الثاني استخبارياً معلوماتياً ضم بالإضافة إلى الدول الثلاث السابقة كندا وبريطانيا. وجاء التحالف الثالث في عهد الرئيس باراك أوباما عام ٢٠١٦، الذي دشن استراتيجية الولايات المتحدة الخارجية التي تستهدف آسيا، وسُمي بتحالف «كواد»، ضم بالإضافة إلى الولايات المتحدة كلاً من اليابان والهند وأستراليا، وجاء بهدف حماية التوازن في المنطقة، لمواجهة الخطر الصيني، وتعزيز حرية الملاحة والسلام الإقليمي، وبناء نموذج أمني اقتصادي. وفي عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، اقترح وزير الخارجية الأميركي عام ٢٠٢٠ تحويل هذا التحالف إلى منظمة شبيهة بحلف الناتو في النطاق الآسيوي، بحجة حماية الشركاء من الهيمنة الصينية، لكن ذلك الاقتراح لم ينجح في إقناع الشركاء، خصوصاً أولئك الذين انضموا للحلف بهدف خلق بيئة مستقرة آمنة.
جاء تحالف «أوكس» الذي يضم أستراليا فقط من المنطقة، في حين أن أميركا وبريطانيا من خارجها، ليضع معظم المسؤولية المستقبلية على ذلك البلد، الذي كان العامل المشترك الوحيد في جميع التحالفات الأمنية السابقة، التي أنشأتها الولايات المتحدة في آسيا، وهو الأمر الذي يشكك بإمكانية نجاحه أو استمراره إذا لم تنضم اليه دول أخرى، كالهند واليابان، والتي ستسعى الولايات المتحدة لضمها في المستقبل، بعد أن فشل سعيها لتحقيق نفس الهدف في تحالف «كراد». من السهل التنبؤ بهدف تحالف «أوكس» الموجه لإثارة مواجهة عسكرية مع الصين، والذي قد لا ينجح أيضاً في تحقيق هدفه بسبب عدم رغبة الصين بالوصول لمثل هذه المواجهة، حيث تعتمد على المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية بدلاً من للمنافسة العسكرية.
وخلق التحالف الجديد وجود قوة عسكرية منافسة في المياه المقابلة للصين. وستزود الولايات المتحدة أستراليا بأسطول غواصات متقدمة تعمل بالطاقة النووية، لتلعب دوراً نشطاً عسكرياً في مواجهة قدرات الصين المتصاعدة في المجال البحري والتحكم في خطوط الاتصال الحيوية. ويأتي ذلك في إطار مخطط أوسع يهدف لحشد مزيد من للتعاون الأمني والسيبراني والذكاء الصناعي. ويبدو جلياً أن الولايات المتحدة قد ضغطت على أستراليا، لتكون حجر الزاوية في هذا التحالف، فعلى الرغم من توتر العلاقات بين كانبيرا وبين الصين، الا أن علاقة أستراليا بالصين كانت دائماً تحت نطاق السيطرة، وطالما تعاملت أستراليا مع الصين بحذر، في إطار علاقات تجارية ممتازة بين البلدين، وقال رئيس وزراء أستراليا عندما تولى منصبه إن الصين الشريك التجاري الأول لبلاده.
وعلى الرغم من أن صفقة الغواصات الأميركية لأستراليا تقتصر على نقل تكنولوجيا الدفع النووي، وليس تكنولوجيا الأسلحة النووية نفسها، أي أن هذه الغواصات غير مسلحة بأسلحة نووية، الا أن المفاعلات المستخدمة في الغواصات النووية الأميركية تحتاج لاستخدام اليورانيوم عالي التخصيب، الأمر الذي سيمكن أستراليا تدريجياً من الحصول على التكنولوجيا النووية، مع توسع أسطول غواصاتها. ورغم معارضة أستراليا نفسها لفكرة الانتشار النووي، الا أن هذا التطور يشير إلى عدم تردد الولايات المتحدة في نقل تقنيات شديدة الحساسية لحلفائها المقربين، حتى وإن ساهم ذلك في زيادة الانتشار النووي في آسيا، والذي يتناقض بطبيعة الحال مع رؤيتها ومواقفها المعلنة، التي تعارض هذا النوع من الانتشار، كما يؤكد تعاملها بازدواجية المعايير. الا أن ما يعد الأخطر في هذا التطور هو فتح الولايات المتحدة لسباق التسلح النووي في المنطقة، وتحفيز الصين وحلفائها لتوسيع وتطوير ترسانتهم النووية، والذي يمكن أن يؤدي إلى دخول المنطقة في دوامة من الرعب، كما أدخلت الشرق الأوسط بسياساتها بدوامة من العنف.
وأخيراً، جاء تحالف «أوكس» ليفتح نزاعاً بين أميركا وفرنسا، الدولة الحليفة للولايات المتحدة والشريكة لها في إطار الحلف الأطلسي، بعد تراجع أستراليا عن تنفيذ العقد الموقع بينهما وبين فرنسا لشراء أسطول الغواصات الفرنسية. وبغض النظر عن الخسارة المادية والمتمثلة بثمن تلك الغواصات، والتي تقدر بـ ٦٠ مليار دولار، الا أن المشكلة باتت أزمة ثقة بين البلدين الحليفين اميركا وفرنسا، ومن شأنها إضعاف التحالف على نطاق الحلف الأطلسي، على حد وصف رئيس الوزراء الفرنسي، الذي استدعت بلاده السفير الأميركي وألغت احتفالاً بمناسبة مرور ٢٤٠ عاماً على التعاون بين البلدين. وتعد هذه الازمة أكبر الأزمات التي تواجه علاقة البلدين منذ خروج شارل ديغول من الحلف الأطلسي ورفض جاك شيراك تأييد الحرب على العراق. ويبدو أن توجه الولايات المتحدة لاستبعاد فرنسا ليس من صفقة الأسلحة فقط، وإنما من المنظومة الأمنية كلها في إطار صياغة إستراتيجيتها في آسيا، انطلاقاً من تمرد الاتحاد الأوروبي على سياسة الولايات المتحدة عموماً، حيث يعتبر الاتحاد الصين الشريك التجاري الثاني بعد الولايات المتحدة، وتدعم ألمانيا التعاون مع روسيا، وتدعم فرنسا اعتماد أوروبا أمنياً على ذاتها. ويبدو أن التضحية بالحلفاء بات السمة الجديدة التي تميز سلوك الولايات المتحدة، بعد التضحية بتركيا ثم بفرنسا، وهو الأمر الذي سيكلف الولايات المتحدة الكثير في اطار معركتها المفتوحة مع الصين، وعلاقتها المتذبذبة مع حلفائها.
على الجانب الآخر، تقود الصين، ومنذ عقدين، تحالفاً تكتيكياً في آسيا، أو في منطقة نفوذها، وقد يكون أكثر صلابة وديمومة من ذلك الذي تقوده الولايات المتحدة، رغم طبيعته غير العسكرية. عملت الصين على صياغة مجال جيوسياسي في محيطها الآسيوي بهدف حماية مصالحها فيه، وهو يشبه إلى حد كبير مجال النفوذ الذي اعتادت الدول العظمى على صياغته لضمان بقائها وحماية مصالحها ومحاربة نفوذ منافسيها، سواء في منطقتها أو حتى مناطق بعيدة عنها. ورسخت الصين مجال نفوذها بشكل يتناسب مع الالفية الجديدة، كما يتناسب مع منهج سياستها الخارجية الذي يقوم على البعد السلمي ويميل للبراغماتية، فاعتمدت على البعد التكنولوجي بدلاً من البعد الجغرافي ليتناسب أداؤها مع تطورات القرن الجديد، كما اعتمدت على البعد الاقتصادي بدلاً من الأمني، بما يعكس توجهات سياستها الخارجية التقليدية، التي لا تميل للعنف، رغم استمرار حرصها على مراكمة قوتها العسكرية، التي تصنف الثالثة عالمياً، بعد أميركا وروسيا، كي تضمن هيبتها السياسية الرادعة.
ومن جانب آخر، عكس انضمام إيران يوم الجمعة الماضي بعضوية كاملة إلى منظمة شنغهاي تطوراً هاماً في منظومة التحالفات الآسيوية. تأسست منظمة شنغهاي للتعاون قبل عقدين من الزمن في سانت بطرسبرغ، بمبادرة من روسيا والصين لإدارة البيئة الأمنية المحيطية وتحييد التهديدات المشتركة لأمنهما القومي وسلامة أراضيهما الناشئة من «الشرور الثلاثة» وهي الإرهاب والانفصالية والتطرف. وتضم المنظمة حالياً ثمانية أعضاء، يمثلون نصف سكان العالم، ويسيطرون على ثلث أراضيه، ويتحكمون بربع إنتاجه الاقتصادي. وبانضمام إيران اليها، باتت تمتلك المنظمة ٤٦ بالمائة من احتياطي الغاز العالمي و٢١ بالمائة من احتياطياتها النفطية. ومنذ انضمام باكستان والهند إلى المنظمة عام ٢٠١٧، باتت تضم أربع قوى نووية، بالاضافة إلى إيران التي تعتبر دولة «على عتبة النووي».
تقدم إيران للمشاركة في المنظمة عام ٢٠٠٤، وحصلت على صفة مراقب في العام التالي، وعلى الرغم من تقدمها بطلب للحصول على العضوية الكاملة عام ٢٠٠٨، لم تحصل عليها الا قبل أيام. وقد يكون الانسحاب الأميركي من أفغانستان عزز من فرص إيران للقبول بعضوية كاملة في المنظمة، خصوصاً في ظل تأكيد روسيا على أهمية إشراك ممثلي إيران في المحادثات الروسية والصينية والباكستانية فيما يخص أفغانستان. وقد قلب انضمام إيران رسمياً إلى منظمة شنغهاي المعادلات السابقة، والتي منعت روسيا والصين في السابق من قبولها خشية تحدي الولايات المتحدة، وفي ظل موافقة الهند، حليفة الولايات المتحدة، على قبولها، وهو وما يفتح المجال البحث في قضية العقوبات على إيران، ويعيد التفكير بشكل التحولات التي يمكن أن تحدث في الأيام القادمة.
بعد انضمام إيران إلى منظمة شنغهاي، وفي أعقاب توقيع الصين وإيران في شهر آذار الماضي لاتفاق التعاون الاقتصادي الضخم، واستعداد إيران لعقد صفقة مماثلة مع روسيا قريباً، كما جرى الاعلان الشهر الماضي عن نية الدول الثلاث لإجراء مناورات بحرية عسكرية مشتركة في منطقة الخليج نهاية العام الجاري، بهدف ضمان سلامة الشحن الدولي ومكافحة قراصنة البحار، وحماية الأمن الاقتصادي للدول الثلاث، والذي يحمل بحد ذاته أهمية سياسية، تبدو خيوط المعادلة الأمنية والسياسية أكثر تبلوراً. وتخلق الاتفاقية الثنائية بين الصين وإيران والشراكة الشاملة بين الصين وروسيا الظروف لشراكة ثلاثية بين الدول الثلاث، والتي يمكن أن تحدد الهيكل الأمني المستقبلي للمنطقة، في مواجهة التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.