يعيدنا التغيير في رئاسة "الشباك" الى السؤال الدائم: إلى أي مدى ساهمت الحرب ضد "الإرهاب" في إحباطه وإلى أي مدى ساهمت في تخليده؟ هل يمكن العثور على درب ذهبي ما يوازن بين الحاجة للإحباط وبين الحاجة للسماح بالهدوء الذي هو المفتاح للتسوية المستقبلية؟ هذا السؤال كان جذر النزاع بين دافيد بن غوريون وبين موشيه شاريت في فترة عمليات الرد، وهو يرافق كل حروب إسرائيل منذ قيام الدولة. في واقع اليوم هذا صدام بين احتواء العمليات ومحاولات إدارة عملية تسوية سياسية بالتوازي، وبين إحباطات وتوتر دائم يترافق وضحايا في الطرفين.
هذه الخلفية، التي اختير على أساسها رئيس "الشاباك" الجديد، الذي في وقت كتابة هذه السطور لا يزال يسمى ر. لا فكرة لدي عن آرائه. ومن ثرثرات ليد ثانية وثالثة ترتسم صورة نموذج جدي، مفكر، متوازن ورجل جهاز، أي برغي في آلة. غير أن معنى أن يكون المرء رئيس جهاز هو أن يتحول من برغي الى دولاب أسنان، والانقلاب من وضع ما يُرى من هنا لا يرى من هناك. آراء نداف ارغمان، ظاهراً، كانت قاطعة للغاية – إحباط، إحباط، إحباط. وإذا لم ينجح هذا شخصياً وعلى المستوى الصغير، فبالحرب إذاً. وحسب رونين بيرغمان، فإن موقف ارغمان في موضوع غزة هو أنها اليوم العبوة الناسفة الكبرى، و"في هذا الوقت من المحظور السير نحو تسوية مع حماس".
لا أدري إذا كان ارغمان يعرف متى يمكن السير الى التسوية، ورأيه هو أن "على إسرائيل أن تستبق وتبادر الى هجوم ضد المنظمة في معركة تقرر فيها إسرائيل متى تبدأ ومتى تنتهي".
يبدو أن ارغمان لا يعلم أنه يمكن أن نعرف متى تبدأ الحرب، ولا سيما عندما تكون أنت المبادر اليها، ولكن لا يمكنك ان تعرف كيف تنتهي. انظروا الى حروب كل إسرائيل التي لم تفرض علينا. حسب ارغمان: "عندما يكون عنصر المفاجأة في أيدينا... سيكون ممكناً البدء في إصابة الزعماء مثلما في حملة عامود السحاب، لأننا اذا لم نعمل الآن، فسنجد أنفسنا مردوعين مثلما الوضع حيال حزب الله اليوم".
وماذا تعرفون؟ ثمة من يعتقدون اننا نحن المردوعون منذ اليوم أمام "حماس". هذا هو السبب الذي لا يجعل أي صاحب قرار ينقض على غزة. على مستوى التصريحات التبجحية فان الجميع وعدوا من افيغدور ليبرمان وحتى بنيامين نتنياهو، ومن نفتالي بينيت وحتى بتسلئيل سموتريتش. وعليه، فيجدر بأحد ما ان يشرح لارغمان، الذي هو رجل عمليات خالص، بأن التسوية السياسية هي عملياتية بقدر لا يقل من عمليات تصفية أو حرب وهي اكثر نجاعة أيضاً. يحتمل، ان ارغمان لم يرغب في أن يدخل رأساً سليماً الى سرير "السياسة" المريض. فالذريعة الدائمة والشعار الشاباكي هو ان "الإرهاب" كارثة طبيعية، وان دور "الشاباك" هو جزّه مثلما يجزّ العشب (أي البشر) وعندها الانتظار الى أن ينمو العشب "الإرهاب" وبعدها جزّه، المرة تلو الأخرى، "الى ان تحقق الحكومة السلام". هذا إما خطأ أو نية مبيتة. اسألوا كل مزارع يعالج العشب: كلما جززت أكثر فإنك حسنت العشب وبات أكثر قوة.
الثمار السامة
من الجدير به والمرغوب فيه أن يلحظ رئيس "الشاباك" الجديد، الذي هو الآخر رجل عمليات، بأنه الى جانب جزّ العشب يوجد أيضا في هدنة ما احتمال للحل. يلزمه مثلا أن يبدي مؤشرات اعتدال، وتخفيف الحصار، والتوصية بتحرير جارف للسجناء كجزء من التسوية. حتى لو كان هذا يتعارض مع مشاعر قسم من الجمهور ويمس بالقاعدة السياسية لرئيس الوزراء، ما يفترض التعاون مع جهاز الأمن، ليس فقط في العمليات بل وأيضا لغرض تنسيق النوايا التي هدفها التهدئة. لا معنى لأن توزع الإدارة المدنية العطايا في النهار وان يدير "الشاباك" في الليالي صيد المشبوهين مع الجيش الإسرائيلي.
الشجاعة ليست فقط في إرسال كتيبة لاعتقال مشبوه بل أيضا احتواء المشبوه الى أن تتكتك القنبلة حقاً. الشجاعة هي ليست فقط إعطاء القناص رخصة لإصابة المتظاهرين، بل أيضا توفير ورقة مهدئة للسياسيين تقول إن التظاهرات قرب الجدار هي تظاهرات قرب الجدار وليست بالذات انقضاضاً على سيادة دولة إسرائيل. ان الضغط لتنفيذ أعمال رد بعد هجوم ناجح من ناحية الفلسطينيين ومأساوي من ناحيتنا هو ضغط سياسي. ان الدولة، الامة، و"الشاباك" يفترض بهم أن يمتصوا وان ينتظروا كي يفحصوا ما العمل وكيف. في السنوات الأخيرة نجح الجيش الإسرائيلي في التغلب على الضغط السياسي الذي مارسه نتنياهو ورفاقه ممن طالبوا بالثأر الفوري لارضاء الرعاع. اما الآن فجاء دور "الشاباك".
مأساتنا هي ان النشاط في الصيغة الحالية هو ضرر متواصل وحيوي على حد سواء لأمن إسرائيل. ظاهرا هذا تناقض، اما عملياً فهو الثمار السامة للواقع السياسي الأشوه. للجيش وللمخابرات الإسرائيلية لا مفر غير التغول على "المناطق" لأن الديمقراطية تلزمهما بإطاعة السياسة التي يهز فيها ذيل اليمين المسيحاني الكلب الائتلافي. الذيل في الحكومة السابقة كان المستوطنين، اما الكلب فكان ائتلاف "الليكود"، "شاس" والاصوليين والصهاينة المتدينين القوميين.
هذه فقط سياسة كل ذرة في كل بؤرة تمنح الكتلة مبرراً وطنياً ودينياً في وجه العلمانية الليبرالية لليسار، غير أن هذه ليست إرثاً ملزماً. للمستوطنين معتقد وارث ملزم، وهم الذيل الذي بدونه ليس للائتلاف أيديولوجيا كفاحية للتباهي بها.
ان نتيجة تطبيق أيديولوجيا المستوطنين من جانب حكومة اليمين هي احتكاك نازف، يهدد بحملات وحروب وانتفاضات. النتيجة على الأرض هي تنفيذ متشدد لمنع "الإرهاب" الفلسطيني، ما يتسبب باستمرار هذا "الإرهاب". ان نروي لأنفسنا "هم الذين بدؤوا" ليس اكثر من تهرب من المسؤولية. نحن الدولة القوية في الحارة، ولحكومات إسرائيل توجد مصلحة في الا تتغير سياسة ولا ذرة في أي بؤرة. بما في ذلك الاغراء بحرب ضربة واحدة وانتهينا. وهذا كفيل بأن يؤدي الى حرب الصاروخ بالصاروخ في منطقة مليئة بالصواريخ، والى مشادة إقليمية تضم الضفة، والقطاع، و"حزب الله"، وسورية.
وهذا هو تفسير مأساة اليسار والجيش الإسرائيلي: إمكانية أن تقع هنا حرب اكبر تستوجب أيضا من اليسار أن يؤيد الاحتفاظ بجيش قوي قدر الإمكان، سواء لمنع الحرب او للانتصار فيها. إن وظيفة الرئيس الجديد هي أيضا أن يشخص شقوق الاعتدال التي يمكن عبرها التقدم الى أيام اكثر هدوءاً. مع مصر استغرق هذا نحو عشر سنوات وسقط آلاف الضحايا الى أن فهمنا بأننا يمكن أن نعقد صفقة تجلب السلام. مع م.ت.ف استغرق هذا نحو 20 سنة، حتى اتفاقات أوسلو، ولكن عندها جاءت حكومات اليمين مع الذيل الذي يهزها. أفترض انه مع "حماس" يمكن لهذا أن يستغرق بضع سنوات طيبة أخرى. يخيل أن الحكومة الحالية تطلق أصوات إدارة مختلفة للنزاع. فلنعش ولنر أو نمت.
عن "معاريف"