حول خطاب محو فلسطين وموت المفاوضات والإبادة السياسية

445632D2-14E2-479E-9CF6-02AB1DEB5275-e1593868222890.jpeg
حجم الخط

بقلم  جمال زحالقة

 

لعلّ أهم ما حمله خطاب نفتالي بينيت في الأمم المتحدة هذا الأسبوع، هو ما لم يحمله. لقد تعمّد التجاهل التام لقضية فلسطين، وعدم ذكر اسم فلسطين والفلسطينيين، بكل ما يعنيه ذلك من مؤشّرات ودلالات، تتجاوز حكومته وتناقضاتها. ما أخفاه بينيت في خطابه كشف عن النوايا الحقيقية لإسرائيل الرسمية، وعن الاستراتيجية التي بدأت منذ بداية القرن الحادي والعشرين وهي حرب «الإبادة السياسية» للشعب الفلسطيني، واختزال قضيته في خانة الأمن وخانة الاقتصاد.

قبل بينيت درج نتنياهو وسبقه شارون على إلقاء الخطب في الاجتماع السنوي للجمعية العمومية للأمم المتحدة، والادعاء بأن إسرائيل تريد السلام ومعنية بالمفاوضات، وتلتزم بحل الدولتين.. لم يصدّقهما أحد، وكان واضحا أنّ الضغط المحلي والاهتمام الإقليمي والقلق الدولي يجبر القيادات الإسرائيلية، على الأقل، على دفع ضريبة كلامية في الشأن الفلسطيني. اضطرار إسرائيل للكذب، مع أن هذا ليس صعبا عليها، هو مؤشّر على أنّها ليست قادرة على تجاهل الأسئلة «المحرجة» في الشأن الفلسطيني. ويبدو أن بينيت ومن حوله قد توصّلوا إلى استنتاج بأنّهم يستطيعون الامتناع عن الرد، من دون أن يدفعوا أي ثمن لعدم دفعهم الضريبة الكلامية. ما معنى عدم ذكر قضية فلسطين في خطاب بينيت؟

ذكرت بعض المصادر الإسرائيلية أنه كان أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي نصّان للخطاب، أحدهما لا يتطرق لفلسطين، والآخر يحمل ردّا عنيفا على خطاب أبو مازن، وقد اختار الأوّل بادعاء أنّه لا يريد أن يفتح «جبهة» من على منصّة الأمم المتحدة. وقد ذهب بعض المحللين إلى القول إن التناقضات داخل حكومة بينيت تكبلها وتكبّل رئيسها، الذي أعلن منذ البداية أنّه سيركّز على ما هو متفق عليه، ويبتعد عن تناول قضايا خلافية. من المحتمل أن هذا قد أثّر، لكنه ليس العامل الحاسم. الأمر المهم حقّا ليس محض امتناع رئيس الوزراء الإسرائيلي عن التطرق إلى قضية فلسطين في خطابه، بل الأسباب والأهداف والدلالات خلف ذلك، وهنا نجد أنفسنا أمام مسائل من الوزن الثقيل، وحتى لو لم يجر تداولها قبل الخطاب فهي قائمة وبقوّة في الخلفية، سواء قيلت صراحة، أو كانت من المسكوت عنه. وليس مهما هنا الدوافع التكتيكية لما لم يأت به خطاب بينيت، بل الأهم بكثير هو الخلفيات الاستراتيجية المتعلّقة بذلك:

لعلّ ما ساهم في تجاهل ذكر فلسطين في الأمم المتحدة، هو الرأي المهيمن في أوساط اليمين الإسرائيلي بأنّ القضية الفلسطينية هي قضية داخلية، ويجب منع تدويلها وحجب التدخل العالمي بشأنها. ومصدر هذا الرأي أنّ ما يحكم العلاقة ببعدها المحلّي، هو توازن القوى، الذي يميل بقوّة لصالح المشروع الاستعماري الصهيوني، في حين أن الساحة الدولية تحكمها اعتبارات إضافية مثل، القرارات الدولية وتوازن المصالح والاعتبارات الإقليمية الواسعة والرغبة في الاستقرار طويل المدى. هنا لا بدّ أن يكون الرد الفلسطيني مباشرًا قويًّا وواضحا، وهو أن القضية الفلسطينية، لم ولن تكون قضية محلية داخلية، بل هي مسؤولية المجتمع الدولي، الذي اتخذ قرارات عديدة سمحت بإقامة إسرائيل، لكنّه لم يفعل ما هو لازم لإنقاذ الشعب الفلسطيني من مشاريعها الاستعمارية والعدوانية. اتبعت إسرائيل في العقد الأخير استراتيجية تهميش القضية الفلسطينية، وادعت أنّ هناك قضايا اهم بكثير في الشرق الأوسط، بل إن أبواق الدعاية الإسرائيلية تجدول فلسطين في المرتبة السادسة بعد التمدد والنووي الإيراني والحرب الدولية في سوريا وقضية «داعش» وما يسمّى بالإرهاب، والصراعات الدامية في اليمن وليبيا والعراق وقضية مياه النيل. وتسعى إسرائيل إلى تحويل موقفها الذاتي إلى «حقيقة موضوعية» في نظر العالم ودول الإقليم. لقد تباهى نتنياهو في السنوات العشر الأخيرة بأن الصراع في فلسطين، لم تعد له الأولوية، مفاخرا بأنّه هو الذي حقّق هذا الإنجاز بعلاقاته الدولية والعربية، وبأن التطبيع الخليجي هو من ثمار «تحييد» قضية فلسطين. التهميش ليس حفاظا على الوضع القائم، بل تعبيد الطريق لترسيخ المشروع الصهيوني بصيغته اليمينية المتطرّفة تحديدا.

تجاوز بينيت الكذب والتضليل في خطابات شارون ونتنياهو السابقة، وبقّ الحصوة بأن السياسة الإسرائيلية العابرة للأحزاب هي محو البعد السياسي لقضية فلسطين، وإذا كان المقصود هو أنّها قضية أمنية واقتصادية فحسب، فلا حاجة لطرحها على منصّة الأمم المتحدة، وتكفي إحالتها إلى الأذرع الأمنية وإلى كتّاب المشاريع الاقتصادية الوهمية من أمثال وزير الخارجية الإسرائيلي يئير لبيد. النقاش الجدّي الوحيد في إسرائيل هذه الأيام هل يكون محو القضية الفلسطينية كقضية سياسية مؤقّتا، ريثما تتغير الظروف؟ أم دائما؟ وحتّى الذين انتقدوه على عدم ذكر فلسطين فقد اتهموه بأنّه أخطأ في إغلاق الباب، وأنّه كان من الأفضل إبقاء الباب مفتوحا، ريثما تأتي حكومة إسرائيلية مختلفة وتأتي قيادة فلسطينية تقبل بشروطها.

اتهم عالم الاجتماع الإسرائيلي بروخ كيمرلينج في كتاب خاص أصدره عام 2003، الحكومة الإسرائيلية بأنّها تخوض حرب «إبادة سياسية» ضد الشعب الفلسطيني. وعرّف هذه الإبادة بأنّها «إلغاء شرعية النضال الفلسطيني والقضاء على قياداته، وتدمير بناه التحتية وحرمان الشعب الفلسطيني من تقرير المصير، ومن إقامة كيان سياسي مستقل». اتهم الكثيرون، في حينه، كيمرلينج بأنّه يبالغ وبأن المشكلة أنّ القيادة الفلسطينية «متصلّبة» لا تقبل شروط إسرائيل، لكن المحللين من اليمين ومن اليسار في إسرائيل متفقون على أن هذا المشروع هو أكثر ما يميّز حقبة نتنياهو. أما بينيت، الذي يسير على خطى نتنياهو السياسية خطوة خطوة، فقد تقدّم خطوة إضافية نحو الانسجام الكامل مع مشروع «الإبادة السياسية» معلنا بلغة الصمت عن محو قضية فلسطين من القاموس الدولي. قابلت أبواق اليمين السياسي الإسرائيلي، الملتف حول نتنياهو، خطاب بينيت بمزيج من الاستخفاف والسخرية، ووصفته بأنّه «خطاب فارغ لشخص فارغ أمام قاعة فارغة» مقارنة بخطابات نتنياهو التي «هزّت العالم» وكانت حدثا لا يستطيع أحد تجاهله، وفق الادعاء. أما اليمين الأيديولوجي، المعارض لبينيت عادة، فقد استبشر خيرا في الخطاب على أساس أن معناه الفعلي هو الإعلان عن موت المفاوضات. حين سُئل مستشارو رئيس الوزراء الإسرائيلي عن سبب عدم ذكر قضية فلسطين في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أجابوا «الصمت يقول أكثر من ألف كلمة». وهذا بمثابة رسالة إلى المجتمع الدولي بأنه إذا التزمت إسرائيل الصمت فعليه هو أيضا أن يلتزم الصمت. ومن المهم الإشارة إلى أنّ «صمت» بينيت ينسجم ليس فقط مع الاستراتيجيات المهيمنة في إسرائيل، بل مع مواقف الإدارة الأمريكية أيضا. فقد رفض الأمريكيون ترتيب لقاء قمّة بين بايدين وأبو مازن، حتّى لا يكون هناك انطباع بأن ثمّة عملية سلمية. فهم قد يأسوا من إمكانية وجدوى ذلك في المستقبل المنظور.

يمكن تلخيص الموقف الأمريكي بأنّه لا يرى إمكانية للتوصل إلى حل لقضية فلسطين، ولا حتى إلى مفاوضات حولها في المرحلة الحالية، وهو يستند إلى ضرورة «محو» بعدها السياسي إلى حين تتغيّر الظروف للعودة إلى «العميلة السلمية». جل ما تطلبه إدارة بايدين هو الامتناع عن تغيير الواقع وعدم سد الطريق أمام حل الدولتين مستقبلا، وهذا المستقبل أصبح أبعد. لا يمكن الرهان على تغيير جوّاني في إسرائيل، ولا على تحوّل فعّال في الموقف الأمريكي ولا على تأثير محتمل لأوروبا وروسيا والصين، ولا على انقلاب في موقف «عرب إسرائيل» المعلنين وغير المعلنين، فماذا بقي للفلسطيني إذن؟ بقي أن يفهم الجميع أن استمرار الانقسام واستمرار السياسة الفلسطينية الحالية كما هي، لن يبقي الوضع كما هو، بل يؤدّي إلى تدهور نحو منزلقات خطيرة. ومن كانت عنده أوهام، أو كانت لديه شكوك، يستطيع اليوم، إن فتح عينيه، أن يرى أننا بصدد مشروع تصفيه القضية الفلسطينية بمبادرة إسرائيلية وتواطؤ عربي ودعم أمريكي ولا مبالاة دولية. وإذا لم يقلب الفلسطينيّون الطاولة فسيكون من الصعب التصدّي للكوارث المقبلة. ومن المهم أن ننتبه إلى أنه إذا قيل «محاولة تصفية» في الماضي لا يعني أنّها غير قائمة الآن. ومثل هذه المحاولة تأتي في موسم الجزر ومن لا نصيب لها في المدّ. المدّ لن يأتي تلقائيا والتغيير لن يأتي من الخارج، ولن ينقذ العالم الفلسطينيين من أزمتهم. هم فقط قادرون، نعم قادرون وكفى إحباطا، على تحريك التغيير المنشود و»إنّ الله لن يغيّر ما في قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم».