في خطابه الطويل نسبيا (25 دقيقة)، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت عن مواضيع عديدة، أبرزها إيران والتقدّم الذي أحرزته هذه الدولة في سعيها إلى امتلاك سلاح نووي، بحسب مزاعم إسرائيل، وما تمثله من خطر على العالم وعلى إسرائيل، التي وصفها بـ”منارة” الديمقراطية وسط “البحر الهائج”، وعن جائحة كورونا والتحدّيات التي تفرضها على العالم، وتجربة دولته في مواجهتها. تحدث بينت في كل ما يهم إسرائيل تقريبا، بما في ذلك عن التطبيع، ولكنه تجاهل الفلسطينيين، وهم الطرف الآخر من معادلة الصراع في الشرق الأوسط، فلم يأت على ذكرهم بشيءٍ سوى في إشارة عابرة إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي، باعتبارهما من حلفاء إيران وأدواتها لنشر الحرب في المنطقة.
بينت، الجديد نسبيا في موقعه، يخطب للمرة الأولى أمام هذا المنبر الدولي المهم، الذي يوفّر فرصة سنوية أمام زعماء الدول أو كبار مسؤوليها لعرض بضاعتهم وسياسات دولهم ومشكلاتها، واستعراض مهاراتهم الفردية في الخطابة أمام الآخرين، بل لمخاطبة جمهورهم الانتخابي المباشر، وإظهارهم رجال دولة ذوي مكانة عالمية مؤثرة. وهذه المسألة بالتحديد لم يفوّتها بينت، فراح يتحدّث عن حكومته باعتبارها تمثل تجاوزا لمرحلة عدم الاستقرار والانتخابات التي تكرّرت أربع مرات خلال عامين. وقد جرّت هذه المسألة على بينت نقدا لاذعا وهجوما شديدا من معارضيه، وخصوصا من حزب الليكود، لأنه كرّس هذه المناسبة الدولية المهمة للحديث عن شان داخلي، بل شخصي.
في ضوء الانقسام الفلسطيني، وتعطيل عناصر القوة الفلسطينية الكامنة، لا سبب يدعو الإسرائيليين إلى الإصغاء للمطالب الفلسطينية .
ربما أثار تجاهل بينت الفلسطينيين استغراب بعض المتابعين والمهتمين، خصوصا أن الخطاب جاء بعد يومين من كلمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام المنبر عينه، حيث أمهل الأخير إسرائيل سنة لكي تنهي احتلالها الأراضي الفلسطينية المحتلة في 1967، ولقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وإلا فستكون للفلسطينيين خيارات أخرى، من بينها خيار التقسيم لعام 1947، أو خيار الدولة الواحدة.
في الدورات السابقة، جرت العادة أن يهاجم كل من الرئيس الفلسطيني ورئيس الوزراء الإسرائيلي سياسات الطرف الآخر، أو أن ينتقدها على الأقل. وكان بنيامين نتنياهو، بشكل خاص، يفرد مساحة واسعة لانتقاد الفلسطينيين، لأنهم، بحسب كذبه، يدعمون “الإرهاب”، ويضيعون الفرصة تلو الأخرى، ولا يستجيبون لمبادرات إسرائيل ويدها الممدودة للسلام!
ترفض إسرائيل أي تدخل دولي جدّي، باستثناء التدخل الأميركي، والوساطات العربية والأوروبية المحدودة والمحصورة في قضايا ملموسة .
لم يكن تجاهل بينت خطاب عباس محض مصادفة، ولا تهوينا من أهمية الفلسطينيين بالنسبة للإسرائيليين، فيوميات الحياة الإسرائيلية تعجّ بأخبار الفلسطينيين. وقبل ساعات محدودة من خطاب بينت، اغتالت قوات جيشه خمسة شبّان في منطقتي القدس وجنين بحجّة اعتزامهما تنفيذ عمليات مقاومة، وقبلها بيوم اغتال قنّاص إسرائيلي شابا في قرية بيتا، جنوب نابلس، لمجرّد مشاركته في فعاليات المقاومة الشعبية “السلمية”. وعلى مدار أسبوعين خلال شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، سيطر موضوع تحرّر الأسرى الفلسطينيين الستة من سجن جلبوع، ثم إعادة اعتقالهم، على اهتمامات الإسرائيليين، سياسيين وإعلاما ورأيا عاما. وبشكل عام، الفلسطينيون دائما حاضرون على جدول اهتمامات السياسة الإسرائيلية. صحيح أن ذلك لا ياتي من باب حقوقهم الوطنية، ولا بصفتهم شركاء في مسيرة السلام والتسوية، ولكن باعتبارهم مشكلة أمنية ومصدر تهديد ديموغرافي.
تجاهل بينت الفلسطينيين وخطاب الرئيس عباس جاء تكتيكيا في ضوء نصائح مستشاري رئيس الوزراء الإسرائيلي، وبعض أقطاب حكومته الذين تجاهلوا أيضا التعليق على المهلة/ التهديد الذي أطلقه أبو مازن، لعل هذا التجاهل يساهم في خفض توقعات الفلسطينيين وتهبيط سقفهم. وإن التعليق الوحيد الذي صدر عن كبار المسؤولين الإسرائيليين صدر عن وزير الجيش بيني غانتس، الذي يتقمص دورا حمائميا في العلاقة مع الفلسطينيين، وسبق له أن اجتمع مع الرئيس الفلسطيني، أواخر الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، فقد عقّب على خطاب أبو مازن بالقول إنه “صعد على شجرة عالية جدا”، كناية عن المبالغة في المطالب التي حملها خطاب الرئيس، ومهلة العام التي منحها لإسرائيل، من دون ان يسندها بأي خطة أو رؤية تفصيلية.
أما السبب الجوهري لتجاهل بينت فيعود إلى النظرة السياسية التي باتت تتكرّس لدى مختلف القوى السياسية في إسرائيل، وبالطبع لدى حكوماتها المتعاقبة منذ حكومة إسحق رابين، مرورا بحكومات شمعون بيريس وشارون وإيهود باراك وأولمرت ونتنياهو، ومفادها أن قضية الفلسطينيين شأن داخلي إسرائيلي، وبالتحديد أمني وديمغرافي. وبالتالي، تدير المشكلة وتعالجها إسرائيل وحدها، بسياساتٍ تراوح بين القوة المفرطة وما تسمى التسهيلات والإغراءات الاقتصادية، كما طرح بعض الوزراء، وخصوصا غانتس ويائير ليبيد أخيرا.
في محطات عديدة، فرض الفلسطينيون أنفسهم وقضيتهم على جدول أعمال الإسرائيليين، من بوابة الكفاح الوطني.
وانطلاقا من هذه النظرة، ترفض إسرائيل أي تدخل دولي جدّي، باستثناء التدخل الأميركي، والوساطات العربية والأوروبية المحدودة والمحصورة في قضايا ملموسة، كقضايا التهدئة وتبادل الأسرى. أما الحل السياسي النهائي للقضية الفلسطينية فقد رسمت حدوده “صفقة القرن”، بل إن عناصرها الرئيسة كامنة في اتفاق أوسلو وملحقاته، حيث لا حديث ولا إشارة إطلاقا إلى قضية الاحتلال، ولا حديث عن “شعب” فلسطيني، بل عن “سكان المناطق”، والحكم الإداري الذاتي المرتبط بإسرائيل هو السقف السياسي لطموحات الفلسطينيين الوطنية. وأخيرا، بدأت الأوساط المقرّبة من بينت في ترويج رؤية عنوانها “تقليص الصراع”، وتتلخص في تثبيت ما آل إليه اتفاق أوسلو في الواقع حلا دائما، مع تخفيف الاحتكاك بين سلطات الاحتلال والفلسطينيين.
في محطات عديدة، فرض الفلسطينيون أنفسهم وقضيتهم على جدول أعمال الإسرائيليين، ولم يتأتّ ذلك إلا من بوابة الكفاح الوطني التي تجعل الاحتلال مكلفا للمحتلين، وعنصر استنزافٍ لطاقات هؤلاء، وعامل تأجيج لخلافاتهم الداخلية. أبرز هذه المحطات كانت خلال الانتفاضة الأولى التي نشأ على أثرها معسكر السلام الإسرائيلي، وساهمت في إسقاط حكم الليكود. أما الآن، وفي ضوء الانقسام الفلسطيني، وتعطيل عناصر القوة الفلسطينية الكامنة، فلا سبب يدعو الإسرائيليين إلى الإصغاء للمطالب الفلسطينية.
يحكى أن الفيلسوف اليوناني سقراط، وكان كفيفا، قال قبل 25 قرنا لأحدهم، وكان هذا معتزا بنفسه ومغترّا بهيئته “تكلم حتى أراك”. فما عسى سقراط ينصح الفلسطينيين الآن كي يراهم بينت والإسرائيليون؟
* نهاد أبو غوش – عضو المجلس الوطني الفلسطيني.