باي باي ميركل

3342.jpg
حجم الخط

بقلم هاني عوكل

 

 

 

بهدوء تغادر المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الساحة السياسية، وذلك بعد تخليها طواعية عن الترشح لولاية خامسة في الانتخابات التشريعية التي فاز فيها الحزب الاشتراكي الديمقراطي من يسار الوسط بفارق ضئيل على حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الحاكم الذي كانت تقوده ميركل.
ميركل التي تزعمت حزبها المحافظ لأربع ولايات متتالية، صنفت من قبل مجلة "فوربس" الأميركية الشهيرة بأنها أقوى امرأة في العالم، استناداً إلى الدور المهم الذي لعبته في السياستين الخارجية والداخلية الألمانية، وفي مقدمتها تحقيق طفرات اقتصادية في أيام السُبات الاقتصادي الذي شهده العالم أواخر 2008 وحتى هذه اللحظة.
في السياسة الخارجية، تمكنت ميركل من إدارة الأزمات الدولية بطريقة ذكية عظّمت من دور ونفوذ بلادها في الاتحاد الأوروبي، خصوصاً مسألة التوتر بين الأخير وروسيا على خلفية الملف الأوكراني، وكذلك توتر العلاقات بين برلين وواشنطن وبعض العواصم الأوروبية بسبب دعم الحكومة الألمانية مشروع خط أنابيب "نورد ستريم 2" الذي يمدها بالطاقة اللازمة من موسكو.
وفي العلاقة مع الولايات المتحدة طالما ظل الموقف الألماني متوازناً بين تحقيق مصالحه بالدرجة الأولى وعدم الجلوس كليةً في الحضن الأميركي كما هو حال بريطانيا الآن، إذ في حين شهدت العلاقة احتراماً متبادلاً بين الرئيس الأسبق باراك أوباما وميركل، فقد ساد التوتر والخلاف بين الأخيرة ودونالد ترامب.
أما فيما يخص العلاقات الأوروبية المشتركة، فقد حرصت برلين في عهد أنجيلا على تضييق الخلافات الأوروبية البينية وممارسة ثقل أكبر لجهة قيادة قاطرة الاتحاد الأوروبي، وملء الفراغ الذي تركته لندن بسبب خروجها الرسمي من الاتحاد، والتركيز على مسألة إنشاء قوات أوروبية مشتركة تصون الأمن الأوروبي وتتكفل بحماية أي تهديدات تواجهه.
كذلك في ملف الهجرة كانت ميركل من الزعماء الأوروبيين القلائل الذين فتحوا أبواب بلادهم للاجئين السوريين، متحديةً الأحزاب اليمينية التي رفضت كل الإجراءات والتسهيلات الألمانية بهذا الشأن، وعلى الصعيد الداخلي سجلت البلاد في عهدها انتعاشاً اقتصادياً غير مسبوق حتى في أصعب الأزمات الاقتصادية عالمياً.
حجم البطالة تقلّص بفارق كبير بين أول ولاية لها العام 2005 وحتى مغادرتها السلطة، وسط ارتفاع ملحوظ في النمو الاقتصادي من نصف في المائة إلى 1.5%، في الوقت الذي عانت فيه دول أوروبية من "خوازيق" اقتصادية وزاد الطين بلة انتشار فيروس كورونا الذي أدخل بعض الدول الأوروبية في "غيبوبة" اقتصادية.
على الرغم من الإنجازات الكثيرة التي حققها حزب ميركل طوال السنوات الماضية، إلا أن البلاد شهدت إخفاقات في محطات متنوعة، وهي إخفاقات تجدها الأحزاب المعارضة متقاطعة مع سياساتها مثل موقفها من التغير المناخي واتهامها حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بالتباطؤ في إصلاح هذا الملف، إلى جانب موقف الأحزاب اليمينية من ملف الهجرة.
ربما الخسارة الوحيدة التي تزامنت مع خروج ميركل من الحياة السياسية هو تدني شعبية حزبها وحلوله في المرتبة الثانية بالانتخابات البرلمانية الأخيرة بعد الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يتزعمه أولاف شولتز.
في الوضع الحالي لا يمكن للحزب الاشتراكي الديمقراطي تشكيل حكومة دون التحالف مع الأحزاب الأخرى في ظل تقارب الأصوات بينه وبين حزب ميركل، وفي هذه الحالة يجوز القول إن عين الأول على حزب الخضر والليبراليون الذين حققوا نتائج تجعلهم صانعي الملوك.
بصرف النظر عن الحزب الرابح والواصل للسلطة في هذه الحالة، فإن شبح ميركل قد يخيم على المزاج السياسي العام في ألمانيا، أي أن السلطة الجديدة ربما ستسير على نهج المستشارة الألمانية خصوصاً على صعيد السياسة الخارجية، ومن المرجح أن يحدث تغير في السياسة الداخلية.
تغير من قبيل التركيز أكثر على البيئة والتغير المناخي وزيادة الاستثمار في الطاقة النظيفة وتقليل الاعتماد على الطاقة التقليدية، وضبط الإنفاق العام وكذلك ضبط ملف الهجرة وغلق الباب أمام أي طلبات جديدة للجوء إلى ألمانيا تحت بند الاكتفاء الذاتي وخوفاً من صعود اليمين المتطرف.
في موضوع ملف الهجرة تحديداً، ثمة مغالطة بشأن سبغه بأهداف إنسانية وترك السبب الرئيس المتعلق بالخلل في التمثيل الهرمي للأعمار لمجتمع يعاني من قلة الشباب، ويحتاج إلى عمالة لسد الكثير من الثغرات في سوق العمل الألماني. النتيجة أن برلين تحتاج إلى الأيدي العاملة والتوقيت خدم ميركل في هذا الجانب.
المستشارة الألمانية ستبقى حاضرة في المشهد السياسي الألماني حتى لو غابت عنه، على الأقل خلال هذه الولاية الجديدة من الحكم، فليس هناك ما يمنع التحول عن السياسة "الميركلية" المعتدلة التي حققت إنجازات كبيرة، اللهم إضافة بعض "التوابل" في "طبخة" معدّة سلفاً.