هبّة القدس والأقصى وإعادة المارد إلى قُمقمه

حجم الخط

بقلم سليمان أبو ارشيد 

 

هبة القدس والأقصى التي اندلعت في تشرين الأول/ أكتوبر 2000 بعد ربع قرن على يوم الأرض (1976)، كانت أيضا اختراقا للسقف السياسي الذي أرادتنا إسرائيل أن نبقى تحته، كما كانت خروجا عن التوليفة السياسية التي حبكتها الحركة الصهيونية المنتصرة عام 1948، لتنظيم العلاقة بين البقية الباقية من الشعب الفلسطيني في وطنها، وبين الدولة التي أنشأتها على أنقاض شعبها.

لقد نجحت المؤسسة الإسرائيلية بعد يوم الأرض في إعادة المارد إلى القمقم، رغم تسليمها بفشل محاولات الأسرَلَة وتبديد الهوية الفلسطينية التي مارستها ضدنا منذ قيامها، ورغم أنها رفعت يدها عن أرض الملّ في البطوف التي كانت في محور يوم الأرض، إلا أنها أمعنت في خنق قرانا ومدننا، وفي محاصرة توسّعها العمراني وتطورها الاقتصادي – الاجتماعي، وحولتها إلى غيتوات معزولة ومكتظة، كما لم تترك لها شبرا واحدا من الأرض خارج طوق مسطحاتها المحدودة.

وفيما بقينا نحن نعيش على الذكرى ونختلف عليها ويجتهد بعضنا في كبح جماح الفعل الوطني الذي فجّره يوم الأرض؛ كانت إسرائيل توسّع المدن الاستيطانية التي أقامتها في قلب التجمعات الفلسطينية، وتنشئ المناطر والمستوطنات لتهويد الجليل، وتصادِر النقب وتطوِّر أساليب الضبط والسيطرة عبر سياسات الدمج والتهميش والإلحاق والاحتواء السياسي.

وجاءت هبة القدس والأقصى كمحاولة تمرّد أخرى على هذا الواقع وكسر سقفه الزجاجيّ، وحملت بعدا وطنيا أكثر وضوحا لارتباطها بالقضايا العامة لشعبنا الفلسطيني، ووقوعها في سياق البدايات المفجِّرة لانتفاضته الثانية (انتفاضة الأقصى)، وهو ما أخاف المؤسسة ودبّ الذعر في أوصالها؛ فلأول مرة منذ 1948 يتوحد شعبنا في مناطق الـ67 ومناطق الـ48 خلف أهداف واحدة وشعارات واحدة في فعل نضالي واحد، شمل الوطن الفلسطيني من البحر إلى النهر، وأعاد قادة المؤسسة الإسرائيلية إلى ذاكرة 1948.

هي عملية تمرّد على التوليفة السياسية آنفة الذكر، تطلَّب قمعها هذه المرة مجهودا أكبر وفترة أطول، لوجود قوى وعوامل كانت غائبة في يوم الأرض، وقد أشارت لجنة “أور” إلى ثلاثة عوامل رئيسة؛ تَمثَّل الأول في ما وصفته بـ”نشوء طبقة نشطاء سياسيين راديكاليين تحدت السياسة التي اتبعتها المؤسسة تجاه المجتمع العربي، واستأنفت على المبادئ التي تعرف وضعيته”؛ والدعوة لإصلاح وضعية الأقلية العربية من خلال تغيير تعريف الدولة وتحويلها إلى “دولة كل مواطنيها”، وهو التيار الذي قاده التجمع الوطني الديمقراطي، وقد تعاملت السلطة مع هذا التهديد بما يستحق، فبعد حياكة ملف أمني لزعيمه الدكتور عزمي بشارة، وإقصائه عن الساحة السياسية، واصلت تضييق الخناق على قياداته وكوادره وصولا إلى خفض سقف مطالبه وحشره في سلة القائمة المشتركة.

أما التيار الثاني وهو التيار الإسلامي المتمثل بالحركة الإسلامية الشمالية التي وصفت اللجنة عناصرها بأنها “تقبل بدولة إسرائيل، ولكن لا تستطيع قبول دولة تعرّف نفسها يهودية أو بقاموسهم دولة ظلم، وإنها بعكس التيار الأول الذي أبدى استعداده للاندماج على أساس فهم جديد للمواطنة، فإن التيار الثاني لديه توجهات انفصالية”، وعليه جرى التعامل أيضا مع الحركة الإسلامية الشمالية بحظرها وإخراج مؤسساتها عن القانون، وزجّ رئيسها الشيخ رائد صلاح في السجن.

أما العامل الثالث الذي شخّصته اللجنة فهو “تعاظُم المركب الفلسطيني في هوية العرب في إسرائيل، وتبلوُر أغلبية تعرِّف نفسها فلسطينية، وهو ما ساهم في تغذية هذا التوجه الذي يدعي أن المجتمع في إسرائيل هو ثنائي القومية، ويجب إعادة تعريف وضعية العرب في إسرائيل وتعريف طابع الدولة”؛ وقد قامت المؤسسة بقمع هذا الاتجاه الذي يتمثل بـ”أبناء البلد” ومشتقاتها، ولاحقت قياداته.

وغني عن البيان بأن قمع هذه التيارات كان ضروريا لإعادة المارد الذي انطلق في هبة القدس والأقصى إلى قمقمه، وإعادة التوليفة السياسية التي تترتب داخلها العلاقة بين الدولة القائمة على أنقاض شعب هذه البلاد، وبين البقية الباقية منه في إطارها، وذلك تماشيا مع سياسة إسرائيل في قمع كل محاولات التمرد والخروج عن السقف الزجاجي، مقابل رعاية التيارات المعتدلة والانهزامية، وصولا إلى طغيان نهج التوصية على غانتس والمشاركة في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي برئاسة مدير مجلس المستوطنات السابق، نفتالي بينيت.

* صحافي من الداخل الفلسطيني (1948).