عطفًا على مقال لنا سابق عن الباشا المسؤول، أوالتفاخر بالألقاب دون معنى أو اتخاذها سياجًا للضعف الذاتي، ومنصة للمفاخرة والمباهاة و(الفشخرة) نبهني أحد الأخوة الى "فن جديد" بدأ يتسلل الى ثقافتنا العربية والفلسطينية! فتأهبت للاستماع ليس فقط لأنني أحب الفنون وإنما لأنه قال "فن جديد وعربي" أنا لا أعرفه! لذا أعدت تركيب وعيي لأكون كما يقول المثل العربي: كلي آذان صاغية.
قال محدثي: أنت تحدثت عن الألقاب من باشوية وباكوية وصولًا إلى مواقع محددة حقيقية، ولكنها عند فئة من الناس أصبحت شرَفِية والوصول لها مدعاة للربادة والكسل ومدعاة للتجبّر على الناس كما هي للمباهاة وافتراض انتزاع مكانَة وصدارة دون الالتفات لمتطلبات الموقع، قلت له: نعم.
أكمل حديثه بأن قال: أنك نسيت الفن الذي سأحدثك عنه وهو فن جمع الألقاب، ففهمته وتبسمت. لكنه أردف: ألم تعلم أن هناك فئة تتحصل على رزمة (حزمة) من الألقاب منها الشرفي ومنها الحقيقي الذي يتطلب فعلًا ولكنها عنده كلها في سلّة واحدة ليست إلا كمن يجمع الطوابع قديما أويجمع العملة المعدنية أو الورقية؟
قلت له: وأنا أجمع العملة!
قال: وهذه هواية جميلة ولا صِلة لها بفن جمع الألقاب، وإنما أوردتها كمثل.
قلتُ ضاحكًا: وهل علمت ما حصل لي مع السفير الفلاني؟
قال: قبل أن تقول لي قصة السفير، دعني أوضح لك أنني صادفت شخصًا-ليس في فلسطين فلا تعكسه على أحد تعرفه-قد حاز من المواقع والألقاب ما تنوء بحمله الجبال.
قلت: أمن استصعابه الحمل، أم أنهم حمّلوه ما لا يطيق غصبًا عنه، أم أنه هو من طلب الحمل لكن لم يستطِع القيام به على وزن القاعدة الشعبية الشهيرة (حمّلوه عنزة ضرط قال حملوني الثانية ، وفي قول آخر حملوني ثور)!
قال: لاتفلسف الأمور كعادتك، ودعني أذكر لك حكايتي أولًا، وفسّرها كما تشاء فأومأت بالموافقة.
فالشخص الذي أتحدث عنه هو مسؤول بأحدى الدول العربية وإن قرأت سيرته الذاتية الحقيقية أقصد العلمية أو الفكرية أو المعرفية أو الانجازات التي قام بها لاتجد شيئا! لكنك تجد في مكتبه ما لايقل عن 50 شهادة ودرع! ما بين شهادة جامعية أو فخرية، وما بين دروع تقدير وتعظيم وما بين اعترافات بجليل فعله! ولا فعل له الا إن احتسبنا ضخامة كرشه أو تمتعه بلبس العباءة والعنبر الفوّاح في ملابسه انجازًا. والى هذا وذاك مازال يسعى بالشهادات والدروع لان تصل الى المائة!
قلت له: استمعت، ولكن هل رأيت أو سمعت بقصة السفيرمعي، وهو المسؤول الذي يحمل موقعين متعارضين معًا!
قال: كيف؟
قلت له: كان يا ماكان في قديم الزمان أن صاحبت أحد المسؤولين في بلدنا الموشّى بسلسلة من المسؤولين الكرام ولكنهم بحقيقة الأمر يفتقدون حسّ المسؤولية، وكنت أشرف وأحاضر في دورة تدريبية في أحدى الدول خارج فلسطين وكان هو السفير فيها، وجاء ليشارك بالدورة متحدثًا ويا ليته ما فعل! لكن ضرورات العمل (البروتوكول) كانت تقتضي حضوره، المهم أن سعادة السفير المذكور جاءه حينها خبر تعيينه وزيرًا فاتصل بزوجته فرِحًا جذِلًا، وله أن يفرح كما يشاء!
فاقتربت منه وقلت: من سيستلم السفارة بعدك باعتقادك؟
فقال لي: ماذا؟ وما علاقة هذا بذاك؟
قلت: ألا يتعارض العملان معًا! سفير ووزير!
قال: شكلك لا تفهم؟ كظمت غيظي، وتابع: نحن لا نتخلى عن عمل أو موقع بل نستزيد. فتذكرت على كلمة نستزيد الآية الكريمة في سورة ق التي تقول: "يوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ".
وهنا ضحك محدّثي وقهقهَ عاليًا قائلاً: ألم أقل لك، يُتقنون "فن" جمع المناصب أو الشهادات، كما الحال مع جمع الطوابع قديمًا، أو العملة.
قلت: ظننتك عرفته؟
قال: لا يهم، لإن مثله في عالمنا الثالث العشرات.
قلت: ولكن جمع الطوابع قد أفل زمانه وسيأفل زمن جمع المناصب.
فلمحت بعينيه نظرة التشكك وربما الاشفاق.