«فيسبوك».. علامة استفهام كبيرة

3342.jpg
حجم الخط

بقلم هاني عوكل

 

 

 

كما عبرت العولمة العالم وصغّرته إلى ما يُعرف اليوم بالقرية الكونية، تغزو منصات التواصل الاجتماعي الكرة الأرضية ولا تستأذن المجتمعات للدخول من الباب، بل ثمة منافذ كثيرة تعبر من خلالها هذه المواقع إلى عقول المراهقين والشباب ومختلف الفئات العمرية، في تحدٍ خطير للقيم الاجتماعية والأخلاقية السائدة.
الموقع العملاق «فيسبوك» ومنصاته الثلاث «واتس آب وانستغرام ومسنجر» واجهت الأسبوع الماضي عطلاً فنياً أوقع هذه الشبكة الكبيرة في خسائر مادية تجاوزت العشرة مليارات دولار، وسط تساؤلات عن أجندات هذه المنصات وموقعها من الإعراب وأهدافها واستحواذها على ملايين البيانات التي تخص عملاءها من المستخدمين.
لا جدال بشأن أهمية «الانترنت» في عالم اليوم من حيث سرعة الحصول على المعلومات، وتوسيع حجم المعاملات التجارية والتواصل الافتراضي، وتفتُّق أفكار ووظائف جديدة في سوق العمل. غير أن هذه الإيجابيات تقابلها سلبيات كثيرة، من أهمها فقدان الخصوصية الفردية وضرب عميق من تحت الحزام على المنظومة القيمية والأخلاقية للمجتمعات المحافظة وغير المحافظة.
بسبب توقف هذه المنصات عن العمل لحوالي سبع ساعات تقريباً، قامت الدنيا ولم تقعد، ولجأ الأفراد إلى مواقع بديلة مثل «سيغنال» و»تيلغرام» للتواصل مع العالم، وانتكست التجارة الإلكترونية وهوت أسهم «فيسبوك» بنسبة تجاوزت 5%، وكذلك الحال بخصوص عدد كبير من الشركات الاقتصادية والإلكترونية.
هذه الانتكاسة فتحت النار على عملاق منصات التواصل الاجتماعي، حيث تزامن مع هذا العطل المتعلق «بتغيير خاطئ في إعدادت الخوادم» نقلاً عن بيان صادر عن «فيسبوك»، تزامن مع هذا العطل تسريب إحدى موظفات المنصة المشهورة وثائق عن الشركة وذراعها «انستغرام» بشأن محتوى يمس شريحة الشباب والقُصّر ويدفعهم إلى الاكتئاب والانتحار.
الموظفة السابقة في «فيسبوك» فرانسيس هوغن قالت للإعلام ولجلسة استماع في الكونغرس إن شركتها قدّمت مصلحتها المادية وسعت إلى تعظيم أرباحها على حساب سلامة مستخدميها. هذا ليس تصريحاً نارياً أو مهماً بالنسبة لمن يتابعون حجم الضرر الذي تحدثه بعض مواقع التواصل الاجتماعي وفي مقدمتها «فيسبوك».
المشكلة التي يجهلها عدد كبير من مستخدمي هذه المواقع الافتراضية، أن الأخيرة ليس لديها مانع من بيع بيانات المستخدمين إلى الشركات الإعلانية والاقتصادية لفهم سلوك الأفراد وحاجاتهم للسلع والخدمات الإلكترونية وبيعهم لها عبر المنصات ذاتها التي حجزت نوافذ لهذه الشركات حتى تُسوّق أفكارها ومنتجاتها.
تحالف رأس المال بين هذه الشركات العملاقة يؤثر بشكل كبير في سلوك الأفراد وتوجهاتهم، ويأخذهم إلى مناطق وغرف معزولة تنسف شيئاً بعد شيء مفهوم التواصل الطبيعي والتماسك الأسري والنسيج الاجتماعي، وتعزز الفردية في مقابل صيغة الجمع، وتأخذ الأب من الأم والأم من الطفل والأخير من الأهل.
مشكلات طلاق حصلت بفعل «فيسبوك» وقاطرة التواصل الاجتماعي الافتراضي، و»خراب بيوت» وفضح الخصوصية الأسرية والفردية انتشر على هذه المنصات، والأخطر في ذلك أن هناك جيشاً كبيراً من المراهقين ينامون ويصحون على هواتفهم النقالة التي تحمل كل خصوصياتهم وكأنها أهم من بطاقة الهوية أو جواز السفر.
مع كل ذلك، لا «تفلتر» مواقع التواصل الافتراضي المحتوى الموجه للمستخدمين تحت بند الحرية الشخصية، اللهم إلا في أضيق الحدود وفي قضايا تشمل العنصرية والكراهية والسب على الدولة الفلانية.. إلخ، وهذا حصل حديثاً. أما موضوعات مثل تسليع المرأة والفساد الأخلاقي والإثارة الجنسية فهذه قضايا عابرة ولا تشكل حساسية بالنسبة للقائمين على هذه المنصات.
قبل أقل من شهر بقليل، نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» تقريراً مسنداً بملفات خاصة مسربة من «فيسبوك»، يشير إلى أن منصة «انستغرام» تشكل ضرراً بالغاً على المراهقات بالذات، اللاتي تأثرن بالتطبيق وأصبن بالقلق والاكتئاب ومشكلات عقلية وصحية، ومنهن من انتحرن وأخريات فكرن وأقدمن على الانتحار.
منصة «انستغرام» صورت الشباب والشابات في أفضل أحوالهم، في حديثهم و»شياكتهم» وشكلهم وما يسمى «اللايف ستايل» الخاص بهم، وهذا السلوك الموثق بالصوت والصورة أثّر على فئة كبيرة من المراهقين الذين لا يثقون مع الأسف بأنفسهم من حيث شكلهم وطريقة عيشهم، ما أدى مع الوقت إلى ظهور هذه المشكلات المرتبطة بالعزلة الفردية وتنامي الكراهية وارتفاع منسوب القلق والوحدة والاكتئاب.
هذا حصل على مسمع ومرأى من «فيسبوك» وغيره من المنصات الافتراضية، والنتيجة مسكنات ولا حلول جذرية، الأمر الذي يؤدي مع الوقت إلى تفكك النسيج الاجتماعي وظهور أمراض وآفات اجتماعية وصحية كثيرة لم نختبرها من قبل.
ومع الأسف يمكن القول إن «الخازوق» الكبير الحاضر دائماً في عالمنا العربي، أننا مجتمع مستهلك في كل شيء، في الثقافة والمأكل والمشرب والملبس وفي المنتوج المستخدم في حياتنا عموماً. حتى في طريقة تخاطبنا نستخدم الأدوات من الآخر ونتأثر بثقافته وغزوه الفكري.
بصرف النظر عن تعطل منصات التواصل الاجتماعي ومحتواها على كافة الأجيال، لابد من التفكير الجدي في بناء منصة تواصل اجتماعي عربية تقدم وتتفاعل مع المحتوى الجدي والهادف لجهة بناء الشخصية الوطنية الثقافية والأخلاقية العربية، بعيداً عن كل أنواع التسطيح ومنزلقات الهاوية الفكرية.
بالتأكيد ستتأثر امبراطورية «فيسبوك» مع مرور الوقت، خصوصاً في بلد المنشأ الولايات المتحدة الأميركية، لكن التأثر سيكون بالأساس نتيجة التنافس الشديد بين الدول الكبرى على حصتها من العالم الافتراضي ومدى تأثيرها. والمحصلة من هذا التنافس خسارة صافية للمجتمع والفرد، وتعدٍ سافر وتدريجي على خصوصيته وتحصيله أياً كان، وعلى القيم التي يحملها.