مرّت، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، الذكرى العشرون لاغتيال اسحق رابين. وعلى الرغم من حقيقة أن اغتياله كان لحظة مفصلية في تاريخ أوسلو، وما سبقه وتلاه، إلا أن الذكرى لم تنل ما تستحق من اهتمام، من جانبنا، على الأقل. وبقدر ما يتعلّق الأمر باهتمام آخرين، في العالم، فقد صدر قبل ثلاثة أسابيع كتاب جديد في واشنطن بعنوان "قتل ملك: اغتيال اسحق رابين وإعادة تشكيل إسرائيل" لدان إيفرون، وهو من مخضرمي مجلة نيوزويك الأميركية، وسبق له العمل مديراً لمكتبها في القدس. يحاول إيفرون رسم صورة شخصية للقاتل والقتيل: يغال أمير، الداعشي الإسرائيلي، الذي عثر على فتوى دينية تقول إن مَنْ يقتل ملكاً يغيّر التاريخ، واسحق رابين، رئيس الوزراء، الباحث عن مخرج من مأزق الاحتلال. وفي الخلفية اتفاق أوسلو، مع الفلسطينيين، الذي تُوّج بحفل التوقيع في حديقة البيت الأبيض، ويطرح أسئلة من نوع: هل الرصاصات التي أصابت رابين، في الظهر، أصابت أوسلو في مقتل، أيضاً؟ وفي السياق نفسه يسأل: هل كان رابين مُدركاً لاحتمال أن يؤدي أوسلو إلى قيام دولة فلسطينية، في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ ويجيب بأن هذا الأمر كان، ضمنياً، في ذهنه. الواضح في ذهن إيفرون أن معارضي أوسلو، في الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، التقت مصالحهم، ولم يدخروا جهداً لإجهاضه، سواء بعمليات حماس، أو حملة اليمين القومي والديني ضد رابين، التي أباحت، ضمنياً، دمه. وقد صعد المعارضون، في الجانبين، إلى صدارة المشهد السياسي، وتمكّنا، كل على طريقته، من تغيير الواقعين الفلسطيني والإسرائيلي، بلا رجعة، بعد اغتيال رابين، وتعثّر أوسلو. قاد بنيامين نتنياهو حملة التحريض الإسرائيلية، وأصبح مشهد المتظاهرين أمام، وفي محيط البناية التي يقيم فيها رابين، مع زوجته، في تل أبيب، يومياً ومألوفاً، رفعوا صوراً يبدو فيها بالكوفية الفلسطينية، وأطلقوا هتافات تقول: رابين خائن. وقد مازحته زوجته، بعد وصوله إلى البيت، بالهتاف الذي تسمعه من غرفة نومها يومياً: رابين خائن. وبقدر ما يعنينا الأمر، في هذه العجالة، ثمة ما يستدعي لفت الانتباه، ولا أعني السياسة بالمعنى الكبير للكلمة، بل الشخصي، والخاص، الذي غالباً ما يضيع في زحمة السرديات الكبرى، ولكنه فاعل على طريقته في التأثير على التحوّلات الكبرى بقدر أكبر، أحياناً، مما يعترف صانعوها. ففي الأيام التي سبقت الصورة ذائعة الصيت، في حديقة البيت الأبيض، نشبت أزمات كثيرة كادت تودي بالاتفاق نفسه. فرابين، مثلاً، لم يرد السفر إلى واشنطن للتوقيع، وأقنعه مستشاروه، من باب الاحتياط، بتكليف شيمون بيريز، وزير خارجيته، بالمهمة. فإذا فشل الاتفاق وقعت مسؤوليته على عاتق الأخير. ولكنه حسم أمره، في اللحظة الأخيرة، وقرر السفر بتأثير الأميركيين، وأحد مستشاريه، وأفراد عائلته. حضور رابين أغضب بيريز، منافسه وخصمه الدائم والعنيد، فقرر تقديم استقالته، وكتبها فعلاً، بمجرد سماع الخبر. كانت تلك لحظة حاسمة كادت تودي بالاتفاق نفسه، لولا نجاح الوسطاء بين الجانبين في جسر الهوّة، وتوزيع الأدوار: يحضر رابين، وبيريز هو الذي يُوقّع. كانت علاقة رابين وبيريز إشكالية، دائماً، فالأوّل لا يثق بالثاني، ولا يستمرئ ميوله الثقافية، وشطحاته السياسية، وعندما كتب أحد مساعديه، ذات يوم، وصفاً لبيريز باعتباره "الفاشل الذي لا يتعب" هنأه على نجاحه في نحت عبارة كهذه. وفي المقابل، يرى فيه الثاني عسكرياً، ضيّق الأفق، وقليل الثقافة. على أي حال، في انتظار أوسلو، نشبت أزمات إضافية، قبل المشهد الختامي. ففي سياق الإعداد لمراسم حفل التوقيع: طلب الرئيس الأميركي، كلينتون، من رابين مصافحة ياسر عرفات، فوافق بعد تردد، ولكن شريطة أن يقتصر الأمر على السلام باليد، وألا يُقبّله عرفات، المُولع بالتقبيل. وتلك كانت مشكلة كلينتون، أيضاً، وعبّر عنها لأعضاء فريقه الرئاسي: إذا سمح لعرفات بتقبيله، على الملأ، لن يتوّرع الأخير عن محاولة تقبيل رابين، فاقترح مستشاره لشؤون الأمن القومي طريقة في المصافحة يمد بموجبها يده اليمني للسلام، ويضع اليسرى على كتف عرفات، فإذا مال عليه أوقفه بيده. وهذا ما كان، تمرّن كلينتون على الابتكار الجديد مع مستشاريه. ولم تتوقف الأزمات عند هذا الحد. قبيل خروجه إلى حفل التوقيع، بدقائق، شاهد رابين عرفات على شاشة التلفزيون، خارجاً من مكان إقامته، مرتدياً زيه العسكري المألوف، في طريقه إلى البيت الأبيض، فقرر الامتناع عن الحضور، والبقاء في غرفته، ولكن الأميركيين المذعورين، من احتمال الفشل في اللحظة الأخيرة، أقنعوه بتجاوز هذا الأمر، فقد قبل عرفات دخول البيت الأبيض دون مسدسه، وسترته العسكرية تشبه إلى حد ما بدلة سفاري. وقعت مفارقات إضافية قبيل، وخلال، إطلالة الفلسطينيين والإسرائيليين على الجالسين في حديقة البيت الأبيض، وأمكن تفاديها. المهم، كتاب إيفرون لا يضيف جديداً إلى وقائع معروفة، ولا تتجلى فيه بصيرة سياسية ثاقبة. فحكاية القبل والسلام والمسدس والسترة مذكورة، بالقدر نفسه من التفصيل، في مذكرات كلينتون. وهذا يصدق على تفاصيل سياسية وشخصية كثيرة سبقه فيها آخرون، سواء من جانب أشخاص شاركوا في أوسلو، أو أسهموا في تحليله. ومع ذلك، كتاب كهذا مفيد في تنشيط الذهن والذاكرة، واستحضار المفارقات، وعقد المقارنات. لم يفعل الفلسطينيون، مثلاً، ما فعله آخرون: دراسة، وتحليل، وتوثيق، الحملة التي قادها معارضو أوسلو الفلسطينيون لإجهاضه، بما في ذلك التفاصيل الشخصية، وكيف التقت مصالحهم، وإن اختلفت المبررات، مع مصالح اليمين القومي والديني الإسرائيليين. وهذه، على الأقل، خلاصة من تداعيات "قتل ملك