نجلاء بودن أمام مهام استثنائية

ريما كتانة نزال.jpg
حجم الخط

بقلم: ريما كتانة نزال

ليس بأمر مستغرب أن تكون تونس الدولة العربية الأولى التي تترأس فيها امرأة مجلس الوزراء. فقد شَهِدَت التجربة التونسية الثبات والاستقرار على صعيد إدماج حقوق المرأة في الخطط الحكومية بالتوازي مع تنفيذها على الأرض، لم تعان تونس من مرض الفصام المعهود لدى صُناع القرار في الدول العربية، والتطور الأخير لم يقتصر على ترؤس الحكومة من قبل السيدة نجلاء بودن فقط، بل تمَّ إسناد تسع وزارات للنساء منها تولي وزارات تُصَنَّف عادة بالوزارات السيادية بواقع 38% بالمائة من حجم الوزارة.
ما يلفت الانتباه في المسار التونسي على صعيد حقوق المرأة، استمرار الإمساك بهدف تطبيق المساواة التامة بإرادة سياسية واضحة. وعندما تمَّ تعديل قانون انتخاب مجلس النواب لدى حصول المرأة على 33% من حجم عضوية المجلس انعكاساً للنص القانوني الذي تبنى المناصفة، تم تعديله ليصبح المناصفة الأفقية والعامودية، ليس على صعيد قانون انتخابات مجلس النواب فقط، بل انطبق كذلك على قانون انتخاب المجالس البلدية والقروية، ما مكَّن المرشحات من الوصول إلى الهيئة التشريعية والمحلية بما يقارب النصف.
بالنتيجة، ما يُمكن استخلاصه: أن توفر الإرادة والجدية في التعامل مع مبدأ المشاركة على قدم المساواة وفق المقاربة الجندرية قد آتى أكله أولاً، إلى جانب مُثابرة الحركة النسوية التونسية وحلفائها في المجتمع المدني دون تردد، على التقدم بمطالبها المؤدية إلى جَسْر الفجوات ووفقاً لخططها بوعي وإصرار وإخلاص مبدئي ثانياً.
وبذلك سجلت التونسيات تاريخاً طويلاً من المكاسب، والأهم أن الإنجازات النسوية تم تسجيلها في ظل التهديدات المحيطة راهناً، من قبل الاتجاه المحافظ الذي يمثله حزب النهضة المتطلع إلى الوصول إلى السلطة، دون أن يتم اللجوء إلى عقد الصفقات أو التراجع المذعور، أو الاكتفاء بما تحقق والانتظار.
يأتي تولي بودن منصب رئاسة الحكومة في واقع تونسي متراجع على الصعيد الاقتصادي والحريات العامة، وما يرتبه ذلك من ضرورات قصوى في التقدم ببرنامج وفق أولويات يقف على رأسها فتح ملفات منظومة الفساد لدحره، ومحاسبة المتورطين في استشرائه. كما تبدو الحاجة إلى أهمية الشروع بعمل إصلاحات اقتصادية واسعة لمحاربة الفقر وارتفاع الأسعار والاحتكار، فتح ملف الحريات العامة والفصل بين السلطات بعد تعطيل الرئيس قيس سعيّد السلطة التشريعية غير القانوني، الذي يؤخذ عليه قراراته الفردية وضغطه على السلطة القضائية وتراجع حرية الصحافة في عهده، ويُحْسب له نظافة اليد ومحاربته الفساد بلا هوادة.
لكي تنجح نجلاء بودن، فهي بحاجة إلى وضع خطة ذات أولويات تتمكن من إخراج تونس من المأزق الذي تعيش، وفقاً لمطالب الشعب التونسي القاضية بوضع خارطة طريق تفضي إلى استعادة التوازن المفقود بين السلطات الثلاث، وتقديم خطط عملية قابلة للتنفيذ حتى تنطلق تونس في عملية البناء الجديدة. لمواجهة التهديدات المحيطة بمستقبل الديمقراطية التونسية، وتتخطى مفترق الطرق بأمان بعد ثورة الياسمين عام 2011، وفي أعقاب عشر سنوات من التدمير، تعاظمت فيها الخشية على المسار الديمقراطي وعلى دولة القانون وعلى حياة الشعب.
في الجوانب الأخرى، قدمت تونس العربية والإسلامية نموذجاً خاصاً للمرأة العربية وبقية النساء في العالم، نأمل فيه أن يُشكل تعيين بودن تتويجاً لمسيرة كاملة من النجاحات في مجال حقوق المرأة التونسية الذي افتتحها الرئيس الحبيب بورقيبة في العام 1956، وهو تاريخ صدور مجلة الأحوال الشخصية وصولاً إلى قانون القضاء على العنف والتمييز ضد المرأة الصادر سنة 2017.
الطرف المحافظ المعادي للديمقراطية جاهز للانقلاب على هوية تونس الحداثية، وبات معروفاً عنه أنه يطمع ويسعى للوصول للحكم دون أن يكون لديه برنامج اجتماعي واقتصادي يعمل عليه. الاتجاه المحافظ التونسي ممثلاً بحزب النهضة يتحيَّن الفرصة للانقضاض على المكتسبات النوعية التي أحرزها المجتمع المدني، والتي أحرزتها المرأة التونسية على صعيد القوانين الحقوقية العصرية والمشاركة في السياسة والعمل والاقتصاد منذ بناء الدولة الحديثة، إنجازات مهمة سواء من خلال الممارسات المكرسة لمبدأ المساواة التامة أو من خلال إقرار القوانين.  
وأخيراً، تتولى نجلاء بودن رئاسة الحكومة في مرحلة انتقالية صعبة تتصف بالضبابية بعد عشر سنوات من الدمار والانقسام. ومن أجل أن تستعيد تونس ثقتها وصورتها أمام العالم كله، ينبغي أن تتوفر لنجلاء بودن الفرصة والإمكانيات المساندة للنجاح في مهمتها الدقيقة لإثبات قدرتها كامرأة على تنفيذ الخطط والمشاريع الحكومية المستقبلية، والحفاظ على الحريات العامة وعلى الطابع الديمقراطي في تونس العربية، الدولة الديمقراطية الوحيدة في وسط صحراء عربية يرتع فيها الفساد والاستبداد والإقصاء. وأن تخرج تونس من عنق الزجاجة وتنطلق نحو البناء، ونجاح بودن يرتبط بمصير تونس ومستقبلها.