لم يخبرنا تقرير الشرطة عن نوع المخدرات التي تعاطاها صاحب «غزوة المنارة»، هل هي صنف رديء من الأفيون، أم هي أفكار متطرفة تم حشوها في رأسه؟
على أي حال، الفرق ليس كبيراً، فكلا الصنفين له الوظيفة ذاتها: تغييب العقل.
بعد تقرير الشرطة تنفس البعض الصعداء، فالأمر ليس فيه تطرف ديني، ولا علاقة له بالفكر الظلامي.. إنه مجرد مضطرب نفسياً، وأراد تفريغ كبته، أو ممارسة جنونه في هذه الفعلة الشنيعة، ولا داعي للقلق.. قد يكون هذا صحيحاً.. ولكن ماذا بشأن من حرضه، ومن أفتى له، ومن أيده، ومئات التعليقات التي تشد على يديه!
من السذاجة عزل هذه الجريمة عن جرائم مشابهة سابقة، كان التطرف الديني فيها واضحاً، ولا لبس فيه.. هل تذكرون غزوة الدواعش على آثار تدمر؟ ومن قبلها على آثار الموصل، والتي شملت تدمير جامع النبي يونس، ومئذنته الشهيرة؟
هل تذكرون تفجير أكبر تمثال لبوذا في العالم على يد طالبان، حين قرصهم الجوع، ومسّهم الخوف من تهديدات اجتياح أفغانستان، فأرادوا ابتزاز العالم، ولفت انتباهه، أو ربما الانتقام من التمثال!
ومن قبلهم قيام الجيش الإسرائيلي بتحطيم نصب الجندي المجهول في غزة بمجرد احتلالها القطاع سنة 1967! ومن بعدهم قيام عناصر متشددة بتحطيم النصب ذاته عشية الانقلاب، ثم سحله في الشوارع إمعاناً في إذلاله!
هل نسيتم تحطيم تماثيل المتنبي، والرشيد، وأبو نواس في بغداد، والمعري في سورية على يد الميليشيات الطائفية والدواعش؟
هل يمكن عزل تدمير التماثيل والمتاحف والآثار التاريخية، عن عشرات جرائم حرق المكتبات في عموم المنطقة عبر جميع الحقب التاريخية السابقة سواء من التتار، أو من غيرهم من أعداء العلم؟ أم عزلها عن جرائم تحطيم الآلات الموسيقية على يد متشددين سلفيين؟ أم عزلها عن جرائم الاعتداءات على المسارح ودور السينما، وحتى محال الفيديو؟
هل من فرق بين حرق مكتبة دار الحكمة على يد المغول، وحرق مكتبة الإسكندرية بأمر من الأسقف سيريل، وتدمير جاليري غزة على يد شرطة حماس، وقصف مركز المسحال من قبل الأباتشي الإسرائيلية؟ وتجريف شارع المتنبي الذي يضم أكبر وأشهر مكتبة شعبية في العالم على يد ميليشيا عراقية فاسدة؟ وإحراق الغوغاء لنصف مليون كتاب كانت تضمها مكتبة السائح في طرابلس بسبب شائعات نُسبت للأب سروج تتهمه بالتهكم على الدين؟
هل تعلمون أن السلفية الوهابية كانت تنوي هدم الكعبة، وهدم قبر النبي محمد، بحجة أنها صارت رموزاً للشرك؟!
حُجة حرق المكتبات: التخلص من الأفكار المغلوطة والمسيئة! أما الهدف الحقيقي فهو استهداف الكتب التي تطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية ومحاسبة الفاسدين، والتي تفضح الخرافات، وترفض الطائفية والتعصب والهوس الديني.
حجة تدمير التماثيل والمعالم الأثرية أنها «أصنام»، وشرك بالله.. والسبب الحقيقي أنها ترمز للجمال، وهؤلاء لا يفهون الجمال ولا يطيقونه، بل إنه يستفزهم.
هل ظن من هشّم أسود المنارة أن المشاة والسيارات وهي تدور حول الدوار إنما تطوف حول أصنام حجرية، ضمن طقوس وثنية!
في حقيقة الأمر، وراء كل تلك الممارسات عقلية واحدة: عقلية تزعم احتكارها الصواب، وتريد فرض وصايتها على الناس.. عقلية متزمتة ومتطرفة فهمت الدين بطريقة سطحية ومتشنجة.. دافعها التعصب والتوهم بامتلاك الحقيقة، والنزعة لمصادرة الرأي الآخر.. عقلية متحجرة تسيرها عقلية إجرامية أكبر منها تريد سرقة دلالات التاريخ ودروسه من الحجارة والآثار.. عقلية تريد محو تاريخ محدد، أو طمس معالمه.
سأقترح على بلدية رام الله ألا تسارع إلى ترميم الأسود المهشمة.. لتظل جريحة، تزأر بأعلى صوتها، وتذكِّر كل من يمر بالمكان بالواقعة الأثيمة، وتنبههم إلى وجود «مجانين» و»مدمنين» يسكنون مدينة تسمي نفسها «ذكية»، ووجود متطرفين ومتعصبين في مدينة اشتهرت بالتسامح والتنوع والتعددية.
لا ترمموا الأسود قبل أن يعي الجميع خطورة الحدث، من رأس السلطة حتى أصغر طفل.. قبل ترميمها عالجوا أسباب التعصب والغلو.. فتشوا عن البيئات التي تنتج التطرف والإرهاب.. ابحثوا عن محفزات العنف ودوافع الجريمة.. ستجدونها في التربية المنزلية التي تسمح بالضرب والتعنيف، في الثقافة المجتمعية التي تقهر الطفولة وتسحق النساء، وفي المدارس التي تعتمد التلقين والحفظ، والمناهج التي تزخر بالأفكار المتطرفة، وفي الجوامع التي يصدر شيوخ فيها الفتاوى الطائفية، وفي الكتب التكفيرية والخرافية، وفي الجامعات التي تغيب عنها مناهج البحث العلمي وأساليب التفكير النقدي وروح الإبداع، ولا تعلّم طلبتها على الاختلاف والتمرد على النظم القائمة.
لا ترمموها قبل أن نتعلم جميعاً كيف نحافظ على الممتلكات العامة، وعلى نظافة الحدائق، وكيف نعبر الشارع، ونحترم إشارة المرور دون وجود شرطي، وكيف نحترم سيادة القانون، ونحترم المرأة، وكيف نستمع لبعضنا، وكيف نتفاهم دون تعصب، وكيف نفكر بعقلية نقدية، وننبذ الخرافات، وكيف نحب بلدنا، وكيف نقدّر الجمال، وأهمية المشهد البصري، وندرك قيمة الآثار التاريخية، وأهمية الفن والموسيقى والعمارة.. حينئذ املؤوا الساحات والميادين ومفارق الطرق والأرصفة بالتماثيل والنوافير والأشجار والورود والنصب التذكارية.. فلا خوف عليها في مجتمع سليم ومعافى.
خلاف ذلك، ستكون «غزوة المنارة»، ومن قبلها تحطيم مطعم في بيت لحم، عبارة عن مقدمة لموجة جديدة من الفوضى والفلتان والتعصب والعنف.. وسيقف أغلبيتنا كالعادة متفرجين سلبيين.
ومع ذلك، سيظل المتطرفون يكرهون الجمال، وسيظل الطغاة يخافون من الأغنيات.. وستظل أسود المنارة تزأر حزينة حتى نصحو، وننضم إلى ركب الحضارة الإنسانية.