القرارات والإجراءات الإسرائيلية الأخيرة بحق ست منظمات فلسطينية، وتصنيفها بأنها منظمات «إرهابية»، تعتبر نقطة تحول في مسار ومخططات وسياسات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وضد المجتمع الفلسطيني على وجه التحديد والخصوص.
هذا التحول له من الأهداف ما هو استراتيجي وبعيد المدى، وله من الاستهدافات ما هو مباشر، ويخضع لاعتبارات سياسية وحزبية تتعلق بواقع حكومة الاحتلال، ومدى «احتياجها» للمناورة، و»الصراعات» بين مكوناتها، وبينها من جهة وبين «المعارضة» التي تتحيّن الفرص للانقضاض عليها.
الاعتبار الأول هو الاعتبار الأخطر، وهو اعتبار الأساس، وذلك لأنه يعكس التوجهات والسياسات الاسرائيلية «لاستكمال» الهجوم الاحتلالي على الشعب الفلسطيني، بهدف تفكيك كل نقاط قوة المجتمع الفلسطيني، وبهدف «التمهيد» لزعزعة ركائز القوة في هذا المجتمع، وشل قدرته على النهوض والاستنهاض، وتحضيراً لما تراه الدوائر الاحتلالية «رأس الحربة» في هجوم أشمل وأعمق، ليطال كل منظمات المجتمع التي ستشكل (من وجهة النظر الاحتلالية) خط الدفاع الأقوى عن المشروع الوطني في ظل حالة الانقسام على المستوى الوطني الشامل، وفي ظل هشاشة الفصائل السياسية ووهنها، وانشداداتها الفئوية، وفي ظل «البحث» المتواصل عن مصالحها وامتيازاتها الفئوية، وعن «سلطاتها» وسلطانها أيضاً.
الهجوم الإسرائيلي الذي يتواصل بصورة مريعة على الأرض والموارد والثروات، وعلى كل مناحي الحياة، وعلى الرواية والتاريخ، ويتجسد استيطانا وهدما وحصارا وإفقارا وتجويعا وترويعا، إضافة إلى كل مظاهر الاعتقال والأحكام الإدارية وسياسات التهويد، و»قوانين» تصفية الأملاك ومصادرتها، وقوانين حرمان أسر الشهداء والأسرى من مصادر الإعالة وتوفير مصادر العيش والبقاء لمئات آلاف الفلسطينيين.. هذا الهجوم الإسرائيلي يرمي إلى إحكام الطوق، وإلى إطباق الدائرة والحبال حول عنق الشعب الفلسطيني، لكي يرضخ في النهاية.. ويذعن للمخططات الإسرائيلية الرامية إلى فرض الحل الإسرائيلي عليه، ومنعه من القدرة على التصدي لهذه المخططات أو الصمود في وجهها.
القرارات الإسرائيلية الأخيرة ليست كأي قرارات سابقة، وليست الإجراءات مجرد سياقات سابقة ومعهودة، وهي بهذا المعنى مرحلة جديدة ونوعية في المخطط الإسرائيلي، وفي الهجوم الإسرائيلي المفصلي على هذا الصعيد.
دشنت إسرائيل هذا الهجوم باستهداف تلك المنظمات الفلسطينية الناشطة والفاعلة والعاملة في مجال حقوق الإنسان تحت حجج وذرائع مضحكة عن «إرهابيتها»، وعن طبيعة نشاطاتها، وعن تمويلها وارتباطاتها...!
والسبب الذي لا يمكن لإسرائيل أن تعلن عنه في تبرير وتفسير هجومها هو أن الدور الذي تلعبه هذه المنظمات مع منظمات أخرى مماثلة في المجتمع الفلسطيني هو دور خاص ومميز في فضح السياسات العنصرية الإسرائيلية، وفي شبكة العلاقات الواسعة التي تمتلكها هذه المنظمات وشقيقاتها مع منظمات المجتمع المدني الدولية المناظرة لها على الصعيد العالمي، وبالتالي التأثير الكبير والمهم لهذه المنظمات على قطاعات واسعة من الأوساط النشطة في البلدان التي تدعم الاحتلال، أو تؤيد سياساته أو تتغاضى عن ممارساته، وسياسته المعادية لحقوق الإنسان، والتي تنتهك القانون الدولي بكل صلف وعنصرية.
كما أن نشاط هذه المنظمات، وخصوصاً في تقديم الملفات الموثقة حول الممارسات والسياسات الاحتلالية، والتي من شأنها تعزيز محاكمة كبار قادة الجيش والأمن والقيادات الإسرائيلية أمام مؤسسات القانون الدولي، بكل أنواعها، وعلى اتساع مجالاتها وتخصصاتها... إنما هو المحرك والدافع الحقيقي لهذا الهجوم، وذلك بالنظر إلى «الخطر» الذي تراه إسرائيل بكل منظوماتها وأدواتها الاحتلالية خطراً محدقاً بها في ظل تصاعد وتنامي المطالبات الدولية بضرورة تصنيف الدولة الإسرائيلية ليس بمجرد دولة احتلال، وإنما بدولة «الأبارتهايد» والفصل العنصري.
إسرائيل ستراقب ردة الفعل الفلسطينية على هذا «التصنيف»، فإذا كانت ردة الفعل هذه مجرد «زوبعة إعلامية»، وإذا كانت موسمية أو محلية أو مجرد شجب واستنكار، واقتصر الأمر كله على إصدار البيانات والتصريحات فستستخلص الدروس المناسبة وتستكمل الإجراءات والقرارات، وسيكون بعد هذه المنظمات المزيد منها، والقوائم كبيرة وطويلة.
وإذا رأت إسرائيل أن ردة الفعل قد بقيت في الإطار «المحلي»، ولم تشتبك وتتشابك فعالية الرد مع منطقة الإقليم، ولم تصل إلى «التدويل» الكبير لهذه المخططات الإسرائيلية فإنها (أي إسرائيل) ستعاود الكرّة من جديد، وستعد عدتها للقوائم الجديدة، بانتظار «الظرف» المناسب والتوقيت المناسب.
أما إذا رأت إسرائيل أن هذا التصنيف سيكون مكلفاً سياسياً، أو أنه سيزيد من عزلتها، ويعزز من وصمها بالعنصرية، وسيلحق بها أضراراً كبيرة فإنها ستلجأ إلى التراجع المنظم عن هذه القرارات والإجراءات، إما لجهة تجميدها، أو الإبقاء عليها دون أي تفعيل لما يستتبع صدورها، أو حتى اشتراط تشديد «الرقابة» عليها. كل شيء سيعتمد على ردة الفعل الفلسطينية، وعلى مدى تأثير هذا الرد على المستويات الإقليمية والدولية على حد سواء.
هذه ليست معركة فصيل سياسي، أو منظمة من منظمات المجتمع المدني في فلسطين، وهي ليست معركة شجب واستنكار، أو معركة إعلامية، بل هي معركة وطنية شاملة لأنها سيعتمد على خوضها بصورة عملية وفعالة الكثير الكثير من قدرة المجتمع الفلسطيني على كسر الإرادة الإسرائيلية، وعلى تحدي السياسات الاحتلالية الجديدة في محاولة شل المجتمع المدني في فلسطين، وعلى الحد من قدرته على المواجهة والصمود.
كما أن هذا الهجوم الإسرائيلي على المجتمع المدني الفلسطيني سيكون، وسيشكل معياراً عملياً مباشراً لقدرة المجتمع المدني العربي والعالمي على فهم أبعاد هذا الهجوم وأخطاره، وعلى مدى فعالية التضامن العربي والدولي في هذه المعركة.
تحاول إسرائيل «الاستفراد» ببعض القوى الفاعلة من منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، وهي ترى وتعتقد أن الفرصة مواتية، والتوقيت أنسب، وهي تراهن على وهن الحالة الوطنية، وعلى الحالة المتراخية للعلاقات الوطنية الفلسطينية، وهي تعول كثيراً على حالة التراخي العربية، وعلى حالة التجاهل الأميركية، وعلى حالة الاستكانة الأوروبية والدولية لأسباب نعرفها، وندرك جيداً ما نتحمله كفلسطينيين عنها، فصائل ومنظمات، ونخباً وقيادات، شخصيات ومؤسسات.. وهي في هذه المراهنة والتعويل تضع المجتمع الفلسطيني كله أمام اختبار الحقيقة، حقيقة القدرات والوعي، وحقيقة صلابة المجتمع ومناعته ومنعته على حد سواء.
وهذه المعركة هي معركة اختبار حقيقية لما يسمى «اليسار» الصهيوني، وفيما إذا كان هذا اليسار قد حسم أمره نهائيا وتخندق وإلى غير رجعة في خندق ما يسمى الوسط، وانحاز كليا إلى معسكر اليمين ومخططاته واستراتيجياته، وفيما إذا تحولت «لعبة» المحافظة على بقاء هذا الائتلاف إلى اللعبة الوحيدة التي «بقيت في المدينة» كما يقال.
وما ينطبق على «اليسار» الصهيوني ينطبق بصورة مضاعفة عن هذا اليسار على جناح الإخوان المسلمين في هذا الائتلاف الذي يبدو انه متمسك بهذا الائتلاف أكثر من كل أو معظم الأحزاب الصهيونية المشاركة فيه.
لا أحد يريد عودة نتنياهو إلى سدة الحكم في إسرائيل، ولكن ليس صحيحا أبدا أن سقوط هذا الائتلاف سيعني عودة نتنياهو إلى الحكم، و»التخويف» بهذه العودة ليس سوى الشمّاعة التي يعلق عليها «اليسار» الصهيوني، وجماعة الإخوان المسلمين المشاركة في هذا الائتلاف تشبثهم بالبقاء فيه بأي ثمن.
لهذا كله فالمسألة هذه المرة ليس كأي مسألة سابقة، والهجوم الإسرائيلي ليس كأي هجوم، والاختبار هذه المرة ليس كأي اختبار، لنا وللمجتمع الدولي، وللأحزاب «الصهيونية» «اليسارية» وللإخوان المسلمين أيضاً.