ليس شرطاً أن يكون المؤمن خبيراً في علوم الدين، متبحّراً في كل فقه؛ فالدين يسر وليس عسراً، وهناك الكثير من الأمور التي قد تواجه المسلم في يومه الطويل، بعضها قد تحيّره، فإذا كانت من عظائم الأمور عليه أن يسأل من كان به خبيراً، أما الأمور العادية، فعليه أن «يستفتي قلبه»، على قاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة، وقلب المؤمن دليله وهاديه، وعقله بوصلته؛ فما استحسنه كان جميلاً، وما استقبحه نأى عنه. وما اطمأن إليه قلبه، ووجده عقله منطقياً، فهو الصواب. وما جافى ذلك ونفر منه، فهو مريب، والمؤمن من ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه.
ومع تقدم الحياة واختلاف أنماطها وأشكالها برزت ظواهر وقضايا لا عد لها ولا حصر لم تكن موجودة في زمن الإسلام الأول، وفي هذا المجال وجد بعض رجال الدين مرتعاً خصباً لأفكارهم الخاصة، فصاروا يصدرون فتاواهم بكل الاتجاهات، ومنهم من رأى في ذلك مصدر دخل وفير، ومع ظهور الفضائيات وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي، دخل حقل الإفتاء كل من حفَّ شاربه وأطلق لحيته وعدَّ نفسه من كبار العلماء، وفي المحصلة نشأت منظومة شبه متكاملة من الفتاوى الغريبة والعجيبة، ما أنزل الله بها من سلطان.
في مرحلة سابقة كانت المحطات الفضائية الدينية هي التجارة الرائجة، اليوم صارت قنوات الـ»يوتيوب»، وقد تزايدت أعدادها بشكل كبير، ولأنها تربح من وراء الإفتاء مبالغ طائلة، فقد أخذت تتفنن في استغلال المشاهدين وتلعب بأعصابهم وبمشاعرهم الدينية من خلال استقطاب نجوم الإفتاء، وخدمة الرسائل القصيرة، وبيع الدجل والوهم، وحبة البركة، والعلاج بالأدعية، والتداوي بالحجب. واتصل بالرقم الفلاني لتحميل دعاء النجاح، والرقم العلاني لتحميل دعاء ما قبل الظهيرة، وآخَر للأناشيد الدينية، ومؤخراً ظهرت في محطات المترو في القاهرة أكشاك للإفتاء.
وكثير ممّن يشتغلون في هذا المجال مدّعون ودخلاء على الإسلام، وهم أكثر من عملوا على تشويهه (بغض النظر عن نواياهم)، وهم يعملون على تفريغه من مضامينه الرائعة، ونزع قسماته الروحية، وتكريس التشدد والتزمّت وتحريم كل شيء. وليست المشكلة في أن هؤلاء الطفيليين يعتاشون على الدين، بل في كونهم يخرجونه من إطاره الإنساني، ويحطون من شأنه، من خلال فتاوى أقل ما يُقال عنها: إنها مسيئة، ولا تستقيم مع منطق سليم، ولا تنسجم مع فطرة سوية.
وهذه الفتاوى لا تعبر فقط عن طبيعة نفسيات وعقول مصدّريها، بل وأيضاً عن مدى تواضع ثقافة من يوجه إليهم أسئلته، ومن يضع فيهم ثقته، ومستوى الفراغ الفكري الذي ينعمون فيه.
الأغلبية الساحقة من هذه الفتاوى مخصّصة للمرأة وعلاقتها بالرجل، ما يعكس هوساً جنسياً غير عادي، يصل إلى درجة الفوبيا والهستيريا؛ فهؤلاء المفتون ينظرون للمرأة كوجبة شهية نأكلها أو نمتنع عنها وفقاً لاعتبارات الحلال والحرام، ويتعاملون معها بوصفها نعجة بين الذئاب، لا كإنسانة مسؤولة عن نفسها، بل وينظرون للرجل أيضاً على أنه كائن جنسي شبق دون عواطف ولا عقل، ولا يضبطه إلا ما يقررونه هم. وقد حصروا الدين في هذه الزاوية الضيقة، وكأنَّ الإسلام العظيم لا شغل له إلا تعقب المرأة وتصيّد أخطائها؛ فهي من وجهة نظرهم غير جديرة بالثقة، ومتهمة دائماً، ومشكوك في سلوكها، بل ومدانة حتماً ما لم تثبت براءتها، وغالباً ما تخسر عمرها وهي تحاول إثباتها.
ولو استعرضنا سيل الفتاوى في السنوات الأخيرة، لوجدنا العجب العجاب، ما لا يستقر له عقل، ولا يرضاه قلب مؤمن أو كافر، وهي بمجملها فتاوى سطحية وغريبة، تدل على خواء مطلقيها. بعضها مضحك حتى تظن أن قائلها إنما يمزح، وتفاجَأ أنه مقطب الحاجبين، ومنها ما يدعو للسخرية كما لو أن صاحبها يستهزئ علانية بعقول مستمعيه. ولكنها وللأسف تخرج باسم هذا الدين الحنيف الذي طالما احترم العقل ودعا للتفكر، والأغرب أن تجد من يأخذها على محمل الجد.
وأغلب تلك الفتاوى تصعّب الحياة وتعقدها، بدلاً من تبسيطها، وتعكر السلم الأهلي، وبعضها يحرض على الفتنة الطائفية، وتشيع الإرهاب الفكري والتصحر الروحي في أمور الحياة الطبيعية، وتسهم في تعميق التخلف الاجتماعي، وتجعل من رجال الإفتاء سلطة فوق رقاب الناس.
وإليكم بعض الأمثلة: فتوى إرضاع الكبير، وفتوى تحريم الغناء، وتحريم الاختلاط في الجامعات وأماكن العمل، وفتوى تحرم على الرجل الواقف في الباص أن يجلس مكان امرأة أخلت مقعدها إلا بعد مرور عشر دقائق، أي حتى يخلو المقعد من الحرارة!! وفتوى تحرّم على المرأة الجلوس أمام الـ«فيسبوك» من دون محرم، وفتاوى تزويج الطفلات الصغيرات، واللواتي لا يتجاوز عمر الواحدة منهن أحياناً العاشرة.
وفي تقرير أعدته فضائية «إم بي سي» ونُشر على موقع «العربية» استعرض المحرر مجموعة أخرى من هذه الفتاوى، كان أحدثها لأحد الدعاة المسلمين في أوروبا، والتي حرّم فيها على النساء ملامسة الخضراوات والفاكهة بدعوى أنها ربما تؤدي إلى إثارتهن أو إغوائهن.
وفي الكويت دعت الناشطة الكويتية «سلوى المطيري» إلى سنّ قانون يمكِّن غير المتزوجة أو المطلَّقة من شراء عبدٍ لتتزوجه، شريطة أن يدفع لها مهراً (حسب الشريعة)؛ معتبرةً أن ذلك الأمر سيحل أزمة العنوسة في المنطقة العربية. كما طالبت بسَنّ قانون للجواري في بلدها (أيضاً حسب الشريعة)؛ لحماية الرجال من الفساد والزنى، واقترحت أن يتم استقدام الجواري من السبايا الروسيات لدى الشيشان.
أما الشيخ محمد العريفي فأفتى بحرمة خلوة البنت مع أبيها!