العسكر والمدنيون: الزواج بالإكراه

BdsJ4.jpeg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

 

مثير للاهتمام جدا، ما حدث في السودان من انقلاب العسكريين على شركائهم ممثلي المجتمع المدني والشعبي، مع قرب انتهاء الفترة الانتقالية، التي كانا فيها المكونين الرئيسيين للحكم، فيما بعد نظام حكم الفرد المستبد عمر حسن البشير، ليس فقط للأشقاء السودانيين وحسب، ولكن لكل الشعوب العربية، ذلك أن سقوط نظام البشير قبل عامين، كان عمليا يعتبر مع الحراك الذي حدث في الجزائر، استكمالا للحراك الشعبي الذي اجتاح معظم الوطن العربي قبل عشر سنوات، ونجح جزئيا في بعض الدول، وفشل في بعضها، كما أن ثمنه كان بسيطا في بعض الدول، فيما كان فادحا في دول أخرى، بما يؤكد، بأن درجة تطور ونضج المجتمعات العربية، من أجل تغيير حقيقي، ينتقل بنظام الحكم السياسي من الديكتاتورية بشكليها العسكري والشمولي، إلى النظام الديمقراطي، ليست على قدر سواء، بل تتباين بين دولة وأخرى، ومتجمع عربي وآخر.
ولأن لكل شيء ثمنا، فقد كان ثمن حقن الدماء، والتوافق بين النظام السوداني، الذي هو بالأصل مثل معظم أنظمة الحكم العربية، التي قادت الدول العربية، منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي، خاصة وأن تلك الأنظمة وصلت للحكم، بعد انقلابات عسكرية، حققت هدفا مزدوجا، هو إسقاط الأنظمة الملكية، وطرد الاستعمار الخارجي، بصورته السافرة، كان ثمن حقن الدماء باهظا على الصعيد السياسي، فتدخل العسكر قبل عامين، بعد الانتفاضة الشعبية، قطع على قادة الثورة الشعبية، من ممثلي النقابات والاتحادات الشعبية، والأحزاب السياسية، أو ما اطلق عليه لاحقا المكون المدني، الطريق للحكم منفردة، بحيث اتفق الطرفان، أي المكون العسكري والمكون المدني، على الشراكة في الحكم، بعد مخاض عسير، تولى بموجبه العسكر ممثلين بعبد الفتاح البرهان، رئاسة المجلس السيادي، أي مهمات رئيس الدولة، فيما تولى المكون المدني رئاسة الحكومة، عبر عبد الله حمدوك.
وقد نص اتفاق الشراكة على قيادة البلاد في مرحلة انتقالية، وصولا لانتخابات عامة، يتم فيها انتخاب رئيس للدولة، لكن قبل ذلك بنحو شهر، ها هو المكون العسكري يقوم بانقلابه العسكري، ليس فقط ليطرد المكون المدني من شراكته في الحكم، ولكن وهذا هو الأهم، ليقطع الطريق على تسلم الشعب للسلطة، بعد إجراء الانتخابات العامة.
وهذا يؤكد بأن النظام السوداني الذي كان ضحى برأس النظام، ما زال مصرا على إبقاء أركان النظام نفسه قائما وحاكما، ويبدو أن الإعلان قبل أسابيع عن محاولة انقلابية فاشلة، ألصقت بضباط موالين للبشير، لم تكن سوى "بروفة" ليس لجس رد فعل الشارع السوداني، ولكن للوقوف عند رد فعل المجتمع الدولي، خاصة الإدارة الأميركية في واشنطن.
على الأرجح، ما كان عسكر الحكم في السودان، بحاجة إلى "بروفة" انقلابية، لو أن دونالد ترامب بقي في الحكم، فهو سبق لهم وأن نالوا صداقته، بعد توقيعهم اتفاق التطبيع، والذي كان محل خلاف جدي بين مكوني الحكم السوداني، العسكري والمدني، لكن حتى اللحظة، وبعد مرور أسبوع على الانقلاب العسكري السوداني على اتفاقية الشراكة وقطع الطريق على الانتخابات العامة، ما زال رد فعل الولايات المتحدة وأوروبا، غير كاف لإجهاض الانقلاب، ما يزيد من العبء على الشارع السوداني، "ليقلع شوكه بيده"، وهنا قد يتم دفع ما تم تأجيله قبل عامين من دماء وخسائر في حال استمرت الثورة لاستكمال تحقيق أهدافها، بالتحول من نظام الحكم العسكري إلى نظام الحكم المدني المنتخب.
وإذا كان قادة المكون المدني الذين خضعوا للإقامة الجبرية، بمن فيهم رئيس الحكومة حمدوك، ثم قادة الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات الشعبية، والقادة الميدانيون للحراك الشعبي، يراهنون على شعبهم في الخروج والتصدي للعسكر، فإن عسكر السودان بقيادة البرهان، يراهنون على إسرائيل أولا ومن ثم الولايات المتحدة، بعد أن قدموا أوراق اعتمادهم في اتفاق التطبيع، وفيما يبدو أن الموقف السوداني يتلكأ في توقيع الاتفاقية، وفي متابعة طريق الوقوف مع إسرائيل خاصة في الاتحاد الإفريقي، حيث لم تشارك وزيرة الخارجية مريم الصادق المهدي، وهي بالطبع تمثل المكون المدني في اجتماع المجلس الوزاري للاتحاد الإفريقي الذي ناقش عضوية المراقب لإسرائيل في الاتحاد الإفريقي.
وظهرت السودان في ذلك الاجتماع على غير الموقف المغربي، والآن، من الصعب توقع ما سيحدث من تطورات في السودان، خاصة مع تفشي الفقر، وفي ظل مشكلة سد النهضة، حيث لا شك بأن الصراع داخل هرم الحكم في السودان له تبعات إقليمية مباشرة وفورية، وبالتالي من الصعب التكهن إلى أي نموذج سيقترب السودان من بين النماذج العربية الإفريقية التي شهدت التغيير، ونقصد بها كلا من تونس ومصر، ثم الجزائر وليبيا.
لكن يبدو أن ما اعلنه البرهان يوحي إلى حد ما بمسار يكون تحت السيطرة، فهو الذي اعلن، يوم الإثنين الماضي، حل مجلس السيادة والحكومة، وفرض حالة الطوارئ، والأخطر حل كل الكيانات النقابية والاتحادات المهنية في البلاد.
التزام البرهان بإنجاز الانتقال بالسلطة بمشاركة مدنية، يثير السؤال، حول تلك المشاركة بعدما رفض المضي بتلك المشاركة الممثلة بالمكون المدني السابق، كذلك في ظل حل النقابات والاتحادات الشعبية، أي انه يريد مشاركة مدنية شكلية، غير مؤثرة على جوهر الحكم الذي سيظل عسكريا، أو كما حدث مع البشير، حيث يعتبر قائد الجيش أن مجرد خلعه للبزة العسكرية وارتداء الزي المدني كاف للقول إنه صار نظاما مدنيا!
المؤشرات الأولية تشي بخطر تفكك الدولة السودانية، مع إصرار العسكر على البقاء في الحكم، فهناك انشقاقات للعديد من سفراء السودان بالخارج، بما يذكر بما حدث في ليبيا العام 2011، وصولا إلى الحرب الأهلية، ومن ثم التدخل الدولي، وهكذا فإن المغامرة العسكرية قد تودي بما تبقى من السودان إلى التحلل والتفكك، والى دوامة عارمة من الفوضى، لا يعود معها مجديا الحديث بعد وقت عن وجود دولة حقيقية على الأرض، هكذا فإن واحدا من المجتمعات العربية، يدخل في أتون الجحيم ما بين رفض الحكم العسكري والبديل الشمولي.