وداعاً كلية الزراعة - أبو غريب

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

على الطريق العام الواصل بين بغداد وحدود العراق الغربية باتجاه الأردن وسورية، وعلى مسافة 20 كم من مركز العاصمة وباتجاه الغرب، توجد بوابة مكونة من عامودَين حجريَّين، على أحدهما لوحة بالخط الكوفي باللون الأزرق نُقشت عليها عبارة: «كلية الزراعة. جامعة بغداد، تأسست سنة 1952».
وكما سيؤلم كل مهندس زراعي في العالم، آلمني ما كتبه الزميل محمود الهاشمي عمّا آل إليه مصير كلية الزراعة، حيث كتب مرثية حزينة ومؤثرة بحق كلّيتنا الأجمل، موضحاً أنها باتت اليوم معروضة للبيع، تمهيداً لتحويلها إلى مجمع سكني! نعم، الكلية، بمبانيها، وساحاتها وحدائقها ومزارعها وأشجارها.. ستنهشها جرافات مقاول جشع، من أجل كومة دولارات.. غير آبه بتاريخها وعراقتها، وما تعنيه للذاكرة الشعبية العراقية، ولذاكرة كل من درس فيها، أو حتى زارها في رحلة استجمام.  
تأسست الكلية في العهد الملكي، على مساحة 555 دونماً، في أخصب أراضي ناحية أبو غريب، وعلى مقربة من نهرها الصغير.. وحسب ما ذكر الهاشمي، فإن تصميم حدائق وساحات الكلية جاء مطابقاً لتصميم كلية الزراعة في جامعة كاليفورنيا. وهذه معلومة جديدة عليّ، رغم أني أحد خريجي الكلية.. بيد أني كنت ألاحظ جمال ودقة التصميم، وذكاء الهندسة التي أبدعتها.. كما علمت أن الكلية كانت قد أهدت ولاية كاليفورنيا مئات الفسائل من أجود أصناف النخيل العراقي في خمسينيات القرن الماضي.
كل من زارها ولو لمرة واحدة تمتع بمناظرها الخلابة، وبحسن تنسيق شوارعها وساحاتها، وبجمال وروعة حدائقها، ومهابة غاباتها التي تضم أشجاراً نادرة ونباتات مميزة تم جلبها من دول عديدة، تشابكت في تنسيق مدهش مع نخل العراق الباسق، وياسمينه وأزاهيره.
في ذاكرة خريجي الكلية ومنتسبيها وهيئتها التدريسية معالم لا تُنسى: حديقة السباع «أيقونة الكلية الأشهر»، ومدرج المكتبة، والنادي الكبير، وحفلات قاعة التأميم، وضريح الشهيد الطيار، وغابة النخيل، والطريق الطويل المؤدي إلى المنحل، وملعب التنس، والمقاعد الخشبية أمام مبنى التسجيل، ومطعم القسم الداخلي، واليابسة والتمن.
الكلية ليست حدائق غنّاء، وبساتين خضراء وحسب.. هي أساساً صرح علمي عريق، تميزت بتركيزها على الجانب العملي، فلكل قسم ما يتبعه من مرافق ترفده بالجانب التطبيقي: معمل كامل للألبان وآخر للتعليب، مخبز متطور، مختبرات حديثة، مزارع أبقار وماشية ودواجن، بيوت بلاستيكية، وحقول مفتوحة، قنوات ريّ، منحل، ورشة للمكائن الزراعية، محطة تجارب زراعية، كلية للدراسات العليا، ومعهد زراعي، ومعهد لأبحاث الموارد الطبيعية، مكتبة ضخمة، أقسام داخلية للطلبة، وملاعب متنوعة، وحي سكني للموظفين والمدرسين.
والأهم أنها كانت تضم خيرة أساتذة وعلماء العراق، ومنهم من كان له إسهامات علمية في الساحة الدولية.. وما يؤسف له أن كل تلك القيم الجمالية والعلمية باتت في مهب الريح، وستدفن قريباً تحت الردم والأنقاض.
ويضيف الهاشمي: بعد الاحتلال الأميركي تعرضت الكلية لهجمات من العصابات والميليشيات، لكنّ موظفي وعمّال وأساتذة الكلية تصدوا لهم.. ثم مارس أمراء الحرب وقادة الميليشيات ضغوطات على عمداء الكلية للهيمنة عليها، واستغلالها، لكن الكلية حافظت على واقعها واستمر بها الدوام إلى أن تقرر إغلاقها، ونقل الطلبة والمدرسين إلى الجادرية، حيث مقر الجامعة الرئيس، وكذلك تم نقل كلية الطب البيطري القريبة منها.. وهناك تقلصت الكلية إلى دونمين فقط يضمان مبنى وحديقة ومكتبة ومكتب تسجيل وكافتيريا وقاعة دراسة.. وهناك سيدرس الطلبة نظرياً، وسيزرعون افتراضياً، وسيرسم لهم الدكتور بقرة أو دجاجة على السبورة، وسيحفظون طرق فحص الأغذية، وتحليل التربة، وأسماء الآفات الزراعية.. نظرياً.
بعد أن استقرت الأوضاع الأمنية نسبياً، وبدأت الحياة تعود لسابق عهدها تدريجياً.. كان من المفترض إعادة افتتاح الكلية، وعودة الطلبة إليها.. لكن الكلية ظلت مجرد مبانٍ خاوية، دون أدنى صيانة، وقد جفت بساتينها، وذبلت أشجارها، وصارت مجرد أرض كئيبة مهجورة.. وقد غادرها أهلها تاركين وراءهم أطلالهم وذكرياتهم.
وبدلاً من تطوير الكلية، والاستفادة من موقعها، ومن ثروتها الحيوانية والنباتية وغاباتها ومعاملها ومختبراتها، ومن كادرها المميز وخبرته الطويلة.. كانت المفاجأة أن وزارة التعليم العالي باعتها بأراضيها ومرافقها إلى وزارة التجارة، والتي بدورها باعتها لأحد المستثمرين.. وكأنّ البلد قد خلت من أراضٍ سكنية!
لم يقدم أي أحد تفسيراً مقنعاً، أو غير مقنع، لأسباب ومبررات إخلاء كلية الزراعة – أبو غريب، مع العلم أن كلية الطب البيطري عاودت الدراسة بنفس موقعها في «أبو غريب» أيضاً! الاسم الذي اقترن بـ»فضيحة سجن أبو غريب» (2004)، ويبدو أنّ قدره أن يظل مقترناً بالفضائح.  
بعد سنوات، من سيمر بالمكان لن يشاهد لوحة بالخط الكوفي «كلية الزراعة، تأسست...»، بل سيشاهد لوحة مضيئة بلغة إنجليزية: «مطعم ماكدونالد»، أو «مول نيو بغداد». وبعد سنوات طويلة سيعثر منقبون هناك على دورق مدفون، أو قطعة من ميكروسكوب، أو لوحة على شكل سهم مكتوب عليها «إلى قسم البستنة»، وسيعرفون حينها أن العراقيين دفنوا مؤسساتهم العلمية، وجلسوا فوق ركامها.
وحتى لا يتوهم أحد بأن مثل هذه الجرائم ترتكب فقط في العراق، أو أن بلده خالية من التخلف والفساد.. لنتذكر أن ميزة التخريب الذاتي خاصة بالمنطقة العربية عموماً، والإفشال سياسة متبعة ومعروفة.. وليس بالضرورة أن يكون التخريب والإفشال والإفساد بالهدم والبيع المباشر، أو بالاختلاس.. عبقرية الفشل لها تمظهرات وأشكال عديدة: جامعات لا تقدم علماً حقيقياً، مؤسسات ثقافية ومراكز علمية غير فاعلة، عبارة عن مبان فارهة، وهياكل بلا مضمون وموظفين بلا إنتاج معرفي، وزارات تديرها سياسات ارتجالية ومزاجية، كفاءات غير مستغلَّة، وفرص مهدورة، وخبراء تم ركنهم على الرف، عشرات الهيئات الحكومية التي بدلاً من تطويرها يتم خصخصتها.  
الفساد ليس فقط سرقات مالية كما يظن البعض، إنه قبل ذلك منظومة من المسلكيات وطرائق التفكير، تبدأ بممارسات صغيرة وسرية، وتنتهي بالصفقات الكبيرة والمعلنة.. كلٌ يمارس فساده بحسب موقعه وإمكانياته.