د. أحمد يوسف... في الرد على اللواء الطيراوي: الإخوان المسلمون.. هكذا عرفناهم

thumb (35)
حجم الخط


في مقابلة أجراها اللواء توفيق الطيراوي مع فضائية "الغد العربي" بتاريخ 1 ديسمبر 2015م، ذكر فيها "إنَّ حالة الانقسام ستنتهي بمجرد إخراج جماعة الإخوان المسلمين من المشهد، منوِّهًا بأنَّ تاريخ الجماعة وأيدولوجياتها تعرقل كافة مساعي لم الشمل". وأردف قائلاً: "إن اتفاق لم الشمل بين فصائل منظمة التحرير لن تنجح في ظل وجود تنظيم يشاهد الأمور من نظرة ضيقة لتحقيق مكاسب حزبية على حساب الهدف أو المشروع الوطني الحقيقي".
استدعي هذا الظلم في الحكم على حركة الإخوان المسلمين أن نطالبه بالاعتذار؛ ولكنه قدم اعتذاراً في مقال بعنوان "رسالة مفتوحة الى د. أحمد يوسف: هذا قراري ....هذا اعتذاري"، بتاريخ 6 ديسمبر 2015م، وقد ضاعف – للأسف – فيما أورده من رد من تعقيدات المسألة، وذلك باستدعائه لحوادث تاريخية تخص الإخوان في مصر، إلا أنها جاءت في سياقات من التشهير والتشويه، إضافة لاتهامات أخرى طالت حركة حماس، جعلت من الصعب ألا نعاود مطالبته بالاعتذار مرة أخرى.
وقائع التاريخ: صفحات لا تغيب
إن قسوة الحكم الذي أطلقه الصديق العزيز توفيق الطيراوي (أبو حسين) على حركة بحجم حركة الإخوان المسلمين؛ وهي التي تعد اليوم كبرى الحركات الإسلامية في العالم، ولها من التاريخ الدعوي والجهادي والسياسي أكثر من ثمانين عاماً، وقد تحملت عبر مسيرتها أذى الظالمين من أنظمة الحكم الدكتاتورية، ولكنها ظلت على طبيعتها كأحد أسهم الخير في الإصلاح، وعلى نهجها السلمي في التغيير، برغم المظالم التي لحقت بقياداتها وكوادرها في العديد من الدول العربية والإسلامية.
كنت أنتظر من الصديق العزيز (أبو حسين) أن يراجع ما قاله حول حركة كانت تضع القضية الفلسطينية على رأس أولوياتها، واعتبرتها قضيتها المركزية منذ انطلاقتها في عشرينيات القرن الماضي، ولم تتوقف مساهماتها عند خطابها الدعوي وما أوردته أدبياتها الإسلامية فقط، بل أرسلت رجالها للقتال إلى جانب أهل فلسطين، وشهد ثرى وطننا الغالي ملاحم بطولة لهؤلاء الرجال، حيث امتزجت دماء أهلنا بدمائهم، كما أن ذكريات شهداء الإخوان من مصر والأردن وسوريا، وتضحياتهم في الدفاع عن عرين الأمة في القدس، كذلك في انتصاراتهم في معارك التبَّة 86 وكفار دروم في المنطقة الوسطى من قطاع غزة، قد أفردها الأستاذ كامل الشريف (رحمه الله) في كتاب بعنوان: "الإخوان المسلمين في حرب فلسطين"، كما لم تنكرها حتى الرواية الإسرائيلية، انظر كتاب "دافيد بن غوريون: يوميات الحرب (1947 – 1949)"، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
في الحقيقة، لم أكن أرغب بداية في الرد على الصديق العزيز (أبو حسين)، إلا أن حجم ما أورده من اتهامات للإخوان المسلمين وللإمام حسن البنا (رحمه الله) استفزني كثيراً، لأنه خلط بين حق أي حركة في أن تأخذ حقها في ممارسة ما تراه مسئولية دينية، وواجباً وطنياً، والتزاماً قومياً تجاه أمتها الإسلامية، وبين حاكمٍ يمارس القهر والتسلط، ولا يعطي حق الرؤية لأحد (ما أريكم إلا ما أرى)، كما هو الحال في معظم بلداننا العربية.
كما أنني وجدت فيما أورده الصديق (أبو حسين) أنه أصدر حكمه على الإخوان من خلال ملاحقة أحداث في فترة تاريخية بعيدة تحركت وقائعها في مرحلة من الخصومة السياسية، وكانت الممارسات فيها من كل الأطراف محل جدل وخلاف، وفيها من الاجتهادات الخطأ التي لم يسلم منها أحد. بالطبع، لم يبخل الصديق (أبو حسين) من نعت تلك الوقائع والأحداث بمصطلحات العصر، حتى تنسجم مع ما هو دارج هذه الإيام من سلوكيات التحريض والتشهير والافتراء، وذلك بإلباس الإخوان المسلمين عباءة الشيطان، واتهامهم بالغلوِّ والتطرف والإرهاب!!
لقد غاب عن الصديق (أبو حسين) أن يتذكر ولو حسنة واحدة للإخوان المسلمين أو أن يستثني مجموعة منهم في بلد من البلدان؛ كالمغرب وتونس والجزائر ولبنان والسودان وتركيا وماليزيا مثلاً، بل آثر أن يضع الجميع في سلة واحدة، ولم ير لأحد منهم فضلاً يذكر!!
من هنا، وجدت أن من باب الأمانة والواجب أن أقدم هذه الحركة الإسلامية، التي عشت عمري كأحد أبنائها، وتنشأت إسلامياً على أفكار قادتها وعلمائها، وارتقيت أدبياً وأخلاقياً على مناهجها التربوية والدعوية، وكنت متابعاً من خلال القراءة المستفيضة والمعايشة الميدانية للكثير من جبهات نضالها، كما كنت مشاهداً بأمِّ عيني لحجم تضحياتها في ساحات الوغى، من أجل عزة هذا الدين وكرامة المسلمين.
لذا سأحاول تقديم الإخوان المسلمين من خلال مسيرة حياتي معهم، بالتركيز على المعاني التي تشرَّبتها وارتسمت في خيالي، وتمَّ توطينها بمشاهدات حيَّة في ذهني تجاه وطننا السليب فلسطين؛ جوهرة المسلمين المفقودة.
في سياق الشهادة: الإخوان كما عرفتهم
كانت بداية معرفتي بالإخوان المسلمين بعد نكسة عام 67م، حيث كانت صدمتي كبيرة بالعار الذي لحق جيوشنا العربية، وشاهدنا صوره بعيون دامعة.. لقد تبددت أحلامي التي علقت بحنجرة أحمد سعيد وإذاعة صوت العرب، وبالشعارات التي أطلقها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر (رحمه الله)، ولم تعد فلسطين؛ الوطن والروح، بعد تلك الهزيمة المخزية قاب قوسين أو أدنى من التحرير والعودة.
وفي مشوار البحث عن بديل للناصرية التي عشقتها شاباً، كان اللقاء بالشيخ أحمد ياسين (رحمه الله)، حيث وجدت في نبرته الصادقة، وكلماته البسيطة في توصيف واقع الهزيمة، وما يتوجب عمله لتحرير فلسطين، ما مسَّ شغاف قلبي، وجعلني أتقبل رؤيته، وأن أكون جندياً – على السمع والطاعة - في حركته.
كنت من أوائل الشباب الذين التحقوا بدعوته في مدينة رفح عام 1968م، وذلك مع عدد من الأصدقاء كان من بينهم الأخوان موسى أبو مرزوق، وفتحي الشقاقي.. وكانت الدروس الأولى التي تلقيناها على يديه لها علاقة بمدونات السلوك الأخلاقي وأدب التعامل مع الناس وكسب قلوبهم، وكانت في الجندية، وواجب الالتزام تجاه المجتمع، والشعور بالمسئولية واحترام الآخرين، ومجادلتهم بالتي هي أحسن، وكانت في الإعداد والاستعداد للتضحية والفداء من أجل قضيتنا المركزية فلسطين.
كانت هذه هي ملامح التربية ومعالم الطريق التي شهدتها سنوات وجودنا في قطاع غزة، قبل أن يبدأ مشوار الرحيل إلى الضفة الغربية عام 1969م، لفترة عرفت فيها وجوهاً إخوانية عديدة هناك، كان منهم المهندس حسن القيق (رحمه الله)، والذي كان لي أباً في غربتي، وكان نعم الأستاذ المربي والقدوة الحسنة في الأدب والسلوك.. غادرت الضفة الغربية بعد أقل من عام، وسافرت للدراسة في تركيا عام 1970م، حيث التقيت برجال من الإخوان الأتراك والسوريين، كانوا بمثابة الحضن الدافئ لي هناك، وشعرت وكأني أعيش بين أهلي وأخوتي، وقد وفرت لي هذه الصحبة مثابة آمنة حمت شبابي من الانحراف وباعدت بيني وبين مغريات الرذيلة. لم تستمر إقامتي طويلاً في العاصمة التركية أنقرا بسبب كلفة الحياة المرتفعة، والتي لم يكن يتسع لها – آنذاك - جيب أبي، فغادرت بعد ستة أشهر عائداً إلى قطاع غزة، وبعدها بعامين إلى مصر، إلا أن ذكرياتها ومعارفي فيها هناك كانت مدخلاً لما توطد لي من علاقات بعد ذلك مع قيادات حزب الرفاه، والإخوة في حزب العدالة والتنمية.
لا شكَّ أن السنوات السبع التي عشتها في قاهرة المعز في السبعينيات، والتي شهدت فترة الانفراج بين الإخوان ونظام حكم السادات كانت بالنسبة لي هي فرصة ذهبية للتعرف عن قرب على فكر الإخوان المسلمين وأديباتهم التنظيمية، من خلال لقاء القيادات الحركية والعلماء المشهورين منهم.
في تلك الفترة أتيح لي الجلوس مع الأستاذ عمر التلمساني، والأستاذ مصطفى مشهور، والشيخ عبد المتعال الجبري، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ سيد سابق، والشيخ سليمان ربيع، والدكتور أحمد الملط، والأستاذ كمال السنانيري والشيخ عبد المعز عبد الستار رحمهم الله جميعاً، وآخرين كالشيخ يوسف القرضاوي، ومن جيل الشباب كان هناك الإخوة عبد المنعم أبو الفتوح، وعصام العريان، وحلمي الجزار وآخرين.
كانت فلسطين في فهم الإخوان هي "أرض وقفٍ إسلامي على جميع أجيال المسلمين في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم إلى يوم القيامة، لا يجوز لأحد كائناً من كان أن يفرّط أو يتنازل ولو عن جزء صغير جداً منها، ولذلك فهي ليست ملكاً للفلسطينيين أو العرب فحسب، بل هي ملك للمسلمين جميعاً… فعلى المسلمين في كلّ مكان أن يساهموا عملياً في تقديم المال والدم للدفاع عنها".
كانت إقامتي في مصر خلال تلك السنوات من (1973 – 1979م) هي التي أنضجتني فكرياً ودعوياً وحركياً، وهي التي عمقت وعينا بالقضية الفلسطينية، حيث عرفت كم كانت القدس والمسجد الأقصى تحظى بمكانة عالية بين المسلمين وعلى رأس اهتمامات جيل الصحوة الإسلامية، وكم كان للإخوان في مصر من فضل على تصدير هذه المكانة في أولويات فكر الجماعة، وكل من سار على هديها في بلاد الشام والمغرب العربي.
لم يبخل الإخوان المسلمون حول العالم في تقديم الجهد والمال لدعم انتفاضتنا المباركة منذ انطلاقتها في ديسمبر 1987م، بل كان التفاعل معها يتصدر كل فعاليات الشارع العربي والإسلامي، وأيضاً في أنشطة وتحركات جالياتنا المسلمة في معظم الدول الغربية، كان الفضل في ذلك لله أولاً ثم لجماعة الإخوان المسلمين ومؤسساتهم المنتشرة حول العالم، لقد أسهم الإخوان في "فلسطنة الضمير الإسلامي"، وجعل فلسطين قضية الأمة، ومشغلة همِّهم، ومحط الرحال لكل اهتماماتهم، وبحراكهم الدؤوب ومسيراتهم التضامنية مع فعالياتها جعلوها خبراً في كل حواضر العالم، وهذا ما أفشل دعايات إسرائيل وأحرجها في المحافل الدولية والعواصم الأوروبية، وجعلها ترضخ للفلسطينيين وتجلس معهم على طاولة التفاوض، وتنهي احتلالها لقطاع غزة فيما بعد.
لقد عشت سنوات من عمري في الإمارات العربية المتحدة أعمل فيها، وكنت قريباً من كوادرها وقياداتها الإسلامية، ولقد كانوا خير من أسهموا في تقديم الدعم، ونصرة أهلنا في الضفة الغربية وقطاع غزة، لم يبخلوا في تقديم المال ورعاية المشاريع التنموية وحركوا القوافل الإغاثية، وإن بصمات أيديهم الندية بالعطاء تشهد لها الكثير من المساجد والمدارس والجمعيات التي ترعى الأيتام وأسر الشهداء والمحتاجين، كما أنه كان للحركة الإسلامية هناك بالغ الفضل في تقديم مئات المنح لطلاب الدراسات العليا من الفلسطينيين في الجامعات الغربية وقد نالني نصيب منها.
وعلى طوال سنوات الدراسة والعمل في أمريكا لقرابة عقدين من الزمن، كانت مؤسسات الإخوان المسلمين وجمعياتهم هناك هي الراعي الحصري لمعظم الأنشطة والفعاليات الخاصة بالقضية الفلسطينية، بالطبع دون تجاهل أو إنكار لما يقوم به أبناء القضية ومراكزها في مدن مثل شيكاغو ولوس أنجلوس.
وفي الجزائر التي أقمت فيها قرابة العامين (يونيه 2004 – فبراير 2006م)، وتنقلت فيها بين الشرق والغرب، وتعاملت مع قياداتها السياسية والدينية، وشاهدت كم كانت فلسطين دُرَّة غالية بين أهلها، الذين كان شعارهم "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، وكنت قريباً من قيادات وكوادر الحركة الإسلامية هناك في حركة مجتمع السلم، وكانت عيوننا تلحظ كم كنا نحظى بالتقدير والاحترام، وهو شعور كنا نعيشه وكأننا بمنزلة "الحجر الأسود" بينهم، لم تغب فلسطين عن فكر الشيخ محفوظ نحناح وخلفه الشيخ أبو جرة سلطاني وعبد الرزاق المقري، وكان الجزائريون من أبناء الحركة الإسلامية من أكثر الذين شاركوا قوافل كسر الحصار، وأتوا بالمساعدات لإغاثة شعب غزة، وهذا كله ببركة التعبئة الإسلامية والارتباط الوطيد....
وعندما عدنا إلى أرض الوطن في مطلع 2006م، كان الإخوان المسلمون ممثلين بحركة حماس قد فازوا في الانتخابات وبدأوا التحرك لتشكيل الحكومة، إلا أن التآمر على مشروعهم في الحكم قد بدأ مبكراً، وكانت الكثير من الجهات المحلية والإقليمية والدولية تتعمد العمل على إغراق سفينتهم، ومنعها من الإبحار.
ولما فشلت كل الجهود في تركيعهم وإخراجهم من مشهد الحكم والسياسية، كانت الحروب العدوانية الثلاثة، بهدف اقتلاعهم وكسر شوكتهم، إلا أن صمودهم في الميدان، واستبسالهم في التضحية، قد أذهب بأس الذين تآمروا، وظلت غزة عصية على التطويع، شامخة بمقاومتها وعزة أهلها.
لا نريد أن نجري مقارنات بين الإخوان وغيرهم؛ سواء هنا في فلسطين أو دول الجوار، ولكن يكفينا القول أنهم شريان الأمة النابض، وأن أحوالنا في ظل غيرهم هي حالة من الذلة والمهانة والانكسار.
أنا أتفهم أن يقول البعض بأن الإخوان قد اجتهدوا في قضية ما وأخطأوا، فهذا حق لهم لا نختلف عليه، وقد كنت أشير - أحياناً - لبعض تلك الاجتهادات الخاطئة في تصريحات أو مقالات، ويستوعب الإخوان ذلك، أما ما سمعناه من صديقنا العزيز اللواء توفيق الطيراوي وما ك تبه بعد ذلك لتبرير ذلك القول، فهذا ظلم وإجحاف بحركة هي ملء سمع الدنيا وبصرها، كان تاريخها هو التعبئة والحشد من أجل فلسطين؛ القضية والشعب.
أتذكر يوماً سألت فيه الشيخ عبد الله عزام (رحمه الله)، وهو من قيادات حركة الإخوان المسلمين وعلمائها: ما الذي جاء بك إلى أفغانستان، فيما الجهاد في فلسطين أقرب إليك وأجزى؟ قال: يا أخ أحمد.. لقد حاولنا، وكنا في معسكرات الشيوخ في الأردن، ولكن الطريق لم تكن مفتوحة أمامنا، نحن هناك نتحرك ونحرض المؤمنين على القتال، وسنأتي بكل هؤلاء الشباب عندما تتحرر أفغانستان لنواصل طريق الجهاد على أرض فلسطين. ومع النصر الذي تحقق للمجاهدين هناك، تربص به الأعداء وقاموا باغتياله.
إن فلسطين - يا أبا حسين - هي من تهفوا لها قلوب ملايين الإسلامين من شباب الإخوان المسلمين وشيوخهم، وحالهم – أبداً - يقول: "عيوننا إليك ترحل كل يوم"، فوالله ما وجدت على صدق ما يقولون أحد، ولا شاهدت راغباً في الشهادة مثلهم أحد، وكانت الحروب الثلاثة التي خاضوها في مواجهة جيش الاحتلال كافية للتدليل على طهارتهم ونبلهم، وأن ليس على شاكلتهم في ميدان الجهاد أحد.
هل يُعقل – يا أبا حسين - مثل هذا القول الذي أوردته، حيث ذكرت: " إن من طبائع الإخوان، عدم قدرتهم على التحالف مع أحد في إطار الجماعة الوطنية والمجتمع، وهذا أخطر ما يكون على شعبنا الذي يعاني من الاحتلال ما يعانيه، ويطلب حقه في دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الجغرافيا الفلسطينية؛ واحدة موحدة، فكيف سيرتضي هؤلاء الوحدة مع مكونات الشعب الفلسطيني إن لم يرتضوها مع حركات إسلامية أخرى مثل الجهاد الإسلامي، التي كابدت ما كابدته من حركة حماس في القطاع الأغر، ولا ننسى أعمال القتل والاغتيالات والسحل الذي مارسته الحركة بحق أبناء حركة فتح حين الانقلاب وبعده، والتي تأتي في نفس السياق والمنهج الذي سردناه عن الجماعة". وأضاف: "إن أحد المخارج الضرورية لما نحن فيه من عنت وتراجع وانقسام وتفكك هو غياب الإخوان عن المشهد في فلسطين، لأنهم ليسوا جماعة وئام ووحدة موقف وطني في وجه المحتل، وعلى حركة حماس أن تتبنى استراتيجية فلسطينية وطنية ليست مرتبطة بالخارج وبسياق الجماعة العام، الذي له اعتباراته ومصالحه التي تتعارض مع فلسطين في معظمها"!!
إن هذا الذي كتبت يا أبا حسين هو كلام بالغ الخطورة والخطأ، وما كان يجب أن يخرج من شخص عليمٍ بمكانتك، هل تنكر أن الإخوان (حركة مجتمع السلم) قد تحالفوا مع النظام في الجزائر لأكثر من دورة انتخابية من خلال التحالف الرئاسي، وهل فاتك أن تتذكر ما هو قائم في المغرب من تحالف سياسي أقامه الإخوان (حركة التوحيد والإصلاح)، من خلال جناحهم السياسي (العدالة والتنمية)، وهو الحزب الحاكم – اليوم - برئاسة عبد الإله بن كيران، وماذا عن اليمن والبحرين والكويت والعراق وتركيا وماليزيا وباكستان، ألم يقيم الإخوان فيها شراكات وتحالفات سياسية مع الآخرين؟!
وهنا في أرض وطننا الغالي ألم يعانى الإخوان وحركة حماس الكثير من الملاحقة والأذى، وأنه لولا تضحيات شبابهم، ودماء شهدائهم، وعذابات أسراهم لما تنفست حركة فتح وغيرها من فصائل العمل الوطني الصعداء، ولظل الجميع ذليلاً مطأطئ الرأس أمام عصا الاحتلال.. أما ما أوردته بخصوص الخلاف مع حركة الجهاد الإسلامي، نعم؛ كانت هناك مواقف تباينت حولها الآراء وتنابز البعض بالألقاب، ولكننا كنا – دائماً - قادرين على معالجة تلك الخلافات بحكمة وروحٍ أخوية إلى أن استوت تلك العلاقة على الجودي، واجتمع الشمل في وحدة الموقف والهدف السياسي، وصار - اليوم - التعاون العسكري والتنسيق الأمني بيننا هو سيد الميدان.
أما تلك الأحداث المأساوية التي وقعت في يونيه 2007م، فليس لأحد أن يدعي المظلومية وطهارة اليد فيها، فالكل كانت له اجتهاداته المغلوطة وتقديراته الخاطئة، والكل لم تسلم يداه من حرمة الدم الفلسطيني، والذي تعاهدنا جميعاً على اعتباره خطاً أحمر، ولكننا – للأسف - ولغنا فيه، وبإمكان كل طرف - إن شاء - أن يسوق من الأعذار لتبرير ما وقع، وإدانة الآخر، وتحميله كامل المسئولية، ولكنَّ هذا ليس هو بيت القصيد يا أبا حسين.
إن ما أوردته بهدف التشهير – للأسف - هو أحداثٌ وقعت في الماضي، ونسعى اليوم جميعاً للتعافي من ذكراها، وقد اعتذر البعض عنها واعترف بالخطأ، وهذا فضيلةٌ في السلوك والخُلق، حيث لن يفيدنا استرجاع سنوات المحنة والوجع، وتذكار لأواء ما وقع، بل علينا أن نتطلع لما هو آت، وأن نبني على رؤية استراتيجية، تضع ما نفكر به مستقبلاً على رأس الأولويات، حيث الشراكة السياسية والتوافق الوطني، والانتخابات التي تضع أقواماً وترفع آخرين.
لست أفهم – يا أبا حسين - ما تقصده بغياب الإخوان عن المشهد، ولكن إن كنت تعني تغييبهم، وأنه لا مكان لهم في مشهد الحكم والسياسة فأنت تكون قد تنكبت السبيل، وركبت مركباً صعباً في أدب الشراكة والحكم.. لقد استأسدتم – كحركة فتح - منذ عام 1994م، وتطاولتم في البنيان، ودانت لكم كل التنظيمات الفلسطينية وأسلمت قيادها لكم، ولكنكم بتفردكم السياسي أوردتمونا جميعاً موارد الهلاك، وجئتم باتفاقية أوسلو وبنودها الأمنية العاثرة، والتي ندفع أثمانها ضياع أرضنا، وانتهاك كرامتنا، وتهويد مقدساتنا، وما نشاهده من قطيعة وانقسام، أوهى شوكتنا، وجعلنا لقمة سائغة للاحتلال، وأصبحنا كفصائل عاجزين - اليوم - عن توحيد جهودنا لدعم الهبة الشعبية وانتفاضة القدس!!
إن هذه اللغة الإقصائية – يا أبا حسين - لا تليق بشخصٍ مثلك، وهي الأخرى تستوجب منك الاعتذار.. نحن شعب لنا خلفياتنا الفكرية، وتبايناتنا الدينية، وتجاربنا النضالية بمشاربها المتعددة، وليس لنا - وبلادنا محتلة - إلا أن نجتمع على رؤية مشتركة نتوافق عليها، ونمضى بها كمشروع وطني للتحرير والعودة.
إنني أتوجه لإخواني في حركة فتح أن يعملوا على ترتيب بيتهم، وألا تظل سيوفهم مشرعة في وجه بعضهم البعض، تحت ذرائع ودواعي واهية، وإن عليكم إعادة بناء مؤسساتكم وإصلاح ذات بينكم، فوالله لرؤية حركة فتح مجتمعة الشمل، وعلى قلب رجل واحد، أحب إلى نفسي وأعز وأكرم من مشاهدتها على الحال التي هي عليه اليوم من فرقة وشجار، أتمنى أن تنجح الجهود التي تبذلها مصر الشقيقة للجمع بين الرئيس أبو مازن والنائب محمد دحلان لطي صفحة الخلاف والتلاحي، وأن تنعقد مجالسها ولجانها الثورية، وأن تنجح المصالحة المعطلة والحكومة المغيبة في تخطي عقبات انعدام الثقة وضيق الأفق هنا وهناك.
يا أبا حسين.. إن علينا أن نتقبل بعضنا البعض، وأن يتفهم كل منا رؤية الآخر وبرنامجه في الإصلاح والتغيير، والوعي بأن هذا الوطن نحرره معاً ونبنيه معاً، وأنه إذا ظل الفتحاوي ينظر للحمساوي بعين التربص والاتهام، ويقابله الحمساوي بريبة وشك فلن يفلح فينا أحد.
وكما قلتها أكثر من مرة، إن علينا التعامل مع ما جرى بيننا عام 2007م على أنه شيء من "نزغ الشيطان"، وعلينا أن نطوي الذكر عنه صفحاً، وأن نجد المخارج والحلول ليرى كل منَّا في الآخر "قرَّة عين" له، وأن نعمل على تصويب مسار بوصلتنا نحو الهدف وتخطي سنوات الضياع.. آمل أن تكون هذه اللغة الأخوية والوطنية هي التي تجمعنا، وترشد على هديها خطانا.
ختاماً: أعقل النّاس أعذرهم للناس
الصديق العزيز أبا حسين.. إن الإخوان المسلمين كما عرفناهم خلال مسيرة تجاوزت الأربعة عقود، لم نشهد فيها عليهم إلا أنهم كانوا محضناً للدعوة، ومصنعاً للرجال، وكانت معاركهم مع الأعداء هي صفحاتٍ للمجد والعزة والفخر.
صديقي العزيز أبا حسين.. أعرف بأن أصعب حقيقة على المرء هي أن يدرك بأنه مخطئ، والأصعب من ذلك أن يعترف بذلك الخطأ، ولكن تذكر وأنت بما عرفتك عليه من خلق، بأن الاعتذار عن الخطأ لا يجرح كرامتك، بل يجعلك كبيراً بين من أخطأت بحقه. دمتم