يُكمِل الهجوم الإسرائيلي الحالي على مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية في أراضي 1967 تقليدًا بات راسخًا، فحواه ملاحقة ما يرتبط من هذه المؤسسات بموضوعة حقوق الإنسان، حتى داخل كيان دولة الاحتلال نفسه.
وهذا ما تثبته وقائع متفرقة هنا وهناك منذ أعوام بعيدة، وأخرى كثيرة متوالية من أعوام قريبة، ولا سيما إثر الحرب العدوانية على قطاع غزة عام 2008. ولا بُدّ من التذكير بأنّ تلك الملاحقة الأخيرة أتت في حينه تحت المسوّغ نفسه: “التواطؤ مع الإرهاب”! وهو المسوّغ الذي ذكره وزير المال الإسرائيلي الحالي أفيغدور ليبرمان، في معرض تبرير الاقتراح الذي طرحه حزبه “إسرائيل بيتنا” على الكنيست الإسرائيلي في كانون الثاني/ يناير 2011، والداعي إلى تشكيل لجنة تحقيق لتقصّي وقائع عمل منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية ومصادر تمويلها.
والأساس الذي ينطلق منه المهاجمون لعمل منظمات حقوق الإنسان داخل إسرائيل أنّ تفسيرهم الأيديولوجي لهذه الحقوق هو التفسير المشروع الوحيد، وليس ثمّة أهمية أو مكان لتفسيرات ترتكز إلى القيم العالمية المتداولة.
بل إن هذه القيم الأخيرة تُعرض كما لو أنها انحرافٌ عن الصواب، فضلًا عن كون أيّ عملية نقد لسياسة الحكومة وممارساتها تقتضي لفظ المُنتقدين وإقصاءهم، بمعزل تامّ عن فحوى النقد.
وقد أوجز أحد المذيعين في إذاعة الجيش الإسرائيلي الأمر برمته في التساؤل التالي: “أفلا يقوم خونة يساريون يعانون من مشكلة هوية بالتجسّس علينا لحساب المعسكر الآخر، فلماذا إذًا لا يقوم الأقوياء منا بضربهم ضربًا مبرّحًا يعيدهم إلى بيوتهم بندوب بائنة؟”، وكان يقصد أعضاء منظمة “لنكسر الصمت”، الذين قدّموا شهادات عن انتهاكات إسرائيل في غزة أمام لجنة التحقيق الأممية التي شكلها مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة في نيسان/ إبريل 2009 (لجنة غولدستون).
بالتوازي، ثمّة توجّه نحو استملاك خطاب حقوق الإنسان من اليمين الإسرائيلي، بغية تحقيق عدة أهداف، أبرزها، كما يؤكد الناطقون بلسانه، إنهاء احتكار من يوصف بأنّه يسار متطرّف لمسألة حقوق الإنسان في إسرائيل؛ منع استغلال موضوعة حقوق الإنسان لخدمة أهداف سياسية مُعادية لإسرائيل؛ تحسين صورة دولة الاحتلال.
بدأ هذا التوجّه يأخذ منحًى واضحًا عقب خطة فك الارتباط أحادية الجانب مع قطاع غزة (2005)، والتي أدّت إلى إجلاء نحو ثمانية آلاف مستوطن يهودي من القطاع، إذ أخذت منظمات يمينية تلجأ إلى ادّعاء إن إخراج المستوطنين اليهود من بيوتهم بالقوة يُعتَبر مخالفًا لخطاب حقوق الإنسان.
وفي الأعوام الأخيرة، استخدم معارضو حلّ الدولتين خطاب حقوق الإنسان ضد إجلاء مستوطنين يهود من منطقة محدّدة كي تقام عليها دولة فلسطينية متجانسة سكانيًا. ووجد هذا الادّعاء تعبيرًا له، حين وصف رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، عام 2016، إمكان إخلاء مستوطنين يهود من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967 بأنّه بمثابة “تطهير عرقي”!
وفي سياق ماهية قيم حقوق الإنسان، يتم اختزالها في أنّها كلّ ما هو نافع وجيّد لـ”دولة إسرائيل الصهيونية” إلى جانب تأكيد أنّ الصهيونية ليست مصدرًا لانتهاك حقوق الإنسان، كونها بدايةً “أنجبت الدولة اليهودية ووفّرت حقوقًا إنسانية جمّة لليهود” ومن ثم “أوجدت منظومة سياسية تمنح حقوقًا إنسانية أكثر من أي دولة أُخرى في منطقة الشرق الأوسط” كلّها.
طبعًا، لا تقتصر ظاهرة لجوء منظمات ومجموعات سياسية يمينية نحو استملاك خطاب حقوق الإنسان على إسرائيل، فقد انتشرت في ما مضى في المستعمرات السابقة في أفريقيا، وفي دول أوروبا، ولدى منظمات محافظة في أميركا.
ويتمثل جزء من هذه الظاهرة باستخدام حرية التعبير لترويج آراء ووجهات نظر عنصرية. وتطوّر مستوى آخر لهذه الظاهرة في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته عقب صعود “سياسة الهويات”، إذ شرعت منظماتٌ ليبراليةٌ في تلك الفترة بالعمل لأجل حقوق المثليين، في حين عارضت منظمات محافظة ذلك، لاعتباراتٍ تتعلق بحقوق العائلة. وتَبَنّت منظمات يمينية في الولايات المتحدة وأوروبا خطاب حقوق الإنسان لمكافحة الهجرة الأجنبية والحدّ منها، بحجّة حماية الثقافة المحلية. عن “عرب ٤٨”