لم يكن موضوع معبر رفح الحدودي الفاصل بين قطاع غزة وجمهورية مصر العربية حديثاً عابراً بالنسبة للفلسطينيين والسلام، بل ظل منذ اتفاق أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية محور اهتمام المواطن الفلسطيني، خصوصاً وأنه المعبر الأهم في حركة تنقلات الفلسطينيين من القطاع إلى الخارج والعكس.
لقد خضع معبر رفح بعد اتفاق أوسلو إلى سلطة السلطة الفلسطينية، وإلى السلطة الأعلى منها وهي سلطة الاحتلال الإسرائيلي الذي ظل يتحكم بالمعبر إلى حين إعلان وتطبيق خطة إعادة الانتشار من قطاع غزة في أيلول 2005، مع ذلك فقد ظلت تراقب وتتابع المعبر وتفرض سلطتها الأمنية عليه إلى حين استلام حركة "حماس" المعبر.
النتيجة أن الانقسام الفلسطيني الداخلي أثر على مجمل مفاصل المؤسسات الوطنية وطريقة إدارتها، وتضررت العلاقات الوطنية الداخلية إلى أقصى حد، كما تضررت أيضاً العلاقات المصرية- الحمساوية بعيد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في الأولى.
في الأساس وطوال تاريخ المعبر منذ اتفاق أوسلو إلى يومنا هذا، لم يدر هذا الملف على قدر من المسؤولية الوطنية واعتبار المواطن الفلسطيني الحلقة الأقوى في هذه المعادلة، بل ظل هذا المواطن هو الحلقة الأضعف في مسيرة عنوان معبر رفح.
نعم، يمكن القول إن السلطة الفلسطينية لم تتمكن من إدارة معبر رفح بشكل سليم ومنتظم، شأنه في ذلك شأن مختلف المؤسسات الفلسطينية التي طالها الفساد وأكلها "السوس"، الأمر الذي عزز من فرص فوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعية التي جرت في العام 2006.
معبر رفح كان ممراً ميسوراً للطبقات البرجوازية والمتنفذة في السلطة وللأجهزة الأمنية والمقربين منها، حتى أن السيارات والباصات التي تنقل المسافرين كانت خاضعة في عدد كبير منها للأجهزة الأمنية.
تعقيدات معبر رفح بدأت تظهر بعد الانتفاضة الثانية في العام 2001، وخلال تحكم إسرائيل بالمنفذ الحدودي، إذ كانت تكثر ايام إغلاق المعبر، وكل ذلك كان يؤثر على حركة تنقلات المسافرين الذين يضطرون إلى التعايش مع هذا الوضع الصعب.
حتى حين غادرت إسرائيل معبر رفح، لم تتمكن السلطة الفلسطينية التي استلم حرسها الرئاسي هذا المنفذ من تخفيف الضغط على حركة المسافرين، وبالتجربة أذكر جيداً كيف كان يتم التعامل مع المسافرين، بنظام "الكوتة" والمصالح الشخصية وسوء إدارة المعبر وغير ذلك.
والأمر لا يختلف حالاً حين استلمت "حماس" المعبر، لأنها أيضاً اشتغلت على قاعدة أن هذا المنفذ هو بالأساس لأزلامها والمنتمين للحركة الحمساوية، وبالتجربة أيضاً نتذكر أن كثيراً من المسافرين كانوا يستطيعون السفر حين يتقرر فتح المعبر بناءً على اتصالات بقيادات متنفذة من الحركة الحمساوية، سواء داخل المعبر أو خارجه.
اليوم معبر رفح مغلق لعدة أسباب، أولها أن العلاقة بين مصر و"حماس" في أسوأ أحوالها، والأولى تريد للسلطة الفلسطينية أن تستلم المعبر حتى يتم إعادة فتحه، أضف إلى ذلك أن مصر تغلق المعبر لاعتبارات أمنية تتعلق بالحرب التي تشنها على الجماعات الإرهابية في سيناء.
لكن ماذا عن آلاف الفلسطينيين الذين تدهورت أوضاعهم، بين مريض ينتظر فرصة فتح المعبر للعلاج، وآخر فقد منحة الدراسة في الخارج، وثالث فقد وظيفته، ورابع عالق في الخارج ولا يملك المال الذي يغطي نفقاته خلال إغلاق المعبر؟
نفهم أن مصر لا يطيب لها وجود "حماس" في السلطة، وهو أمر واقع لم يتمكن فرقاء الانقسام من تجاوزه بكل ما توفر من دعوات واقتراحات للعودة عن هذا الانقسام، لكن لا ينبغي حقيقةً معاقبة كل الشعب الفلسطيني عن تصرفات "حماس" وسوء علاقتها بالجارة مصر.
ثم إن معبر رفح يعتبر دائماً أحد أهم العناوين المختلف عليها وركنا من أركان الانقسام، والأولى أن يتم التعامل مع هذا الملف بطريقة وطنية عالية وأخلاقية وبعيداً عن المناكفات السياسية، لأن الأمر يتعلق بمصير الشعب الفلسطيني الذي يستلزمه نافذة للإبحار والانفتاح مع العالم الخارجي.
وقمة الظلم أن تعيش غزة أوضاعاً كارثية وحصاراً خانقاً لسنوات طويلة، ولا يوجد هناك أي أفق سياسي لحل مشكلاتها، ذلك أن بقاء الوضع على حاله بهذه الطريقة من شأنه أن يقود إلى خطوات تصعيدية لا تحمد عقباها، والمفترض أن ينظر فرقاء الانقسام بعناية إلى مطالب الشعب.
الفلسطينيون في غزة عبروا عن وجهات نظرهم وقالوا قولهم بـ هاشتاج "سلموا المعبر"، وهذا الموقف وطني وعادل ولا ينتقص من كرامة ووطنية "حماس"، ويفترض أن لا تشكك الحركة الحمساوية بمطالب الناس الذين هم بحاجة إلى متنفس مع العالم الخارجي.
كل هم الناس هو فتح معبر رفح وبقائه كذلك كل الوقت، حتى يتمكن الجميع من ممارسة أبسط حقوقهم في التنقل والسفر، الأمر الذي يدعو "حماس" لإعادة تقييم موقفها من المعبر، وسيسجل للحركة الحمساوية موقفاً مشرفاً إذا تنازلت عن معبر رفح لصالح فتحه.
هذا قد يحدث في حالتين، إما أن تستلم السلطة الفلسطينية المعبر، وهو أمر تريده مصر وتصر على ضرورة أن لا يكون لـ"حماس" يد فيه، أو يأتي ذلك عبر التوافق على جهة معينة يصار لها مهمة إدارة معبر رفح بما يمكن من تسهيل مرور المسافرين وعدم إعاقتهم.
الفلسطينيون شربوا المر من حصار خانق ما يزال مفروضاً عليهم، ومن المهم النظر في صيغ خلاقة تخفف من معاناتهم، والمناشدات الفلسطينية بتسليم المعبر تأتي في إطار الإفراج عن الفلسطينيين في قطاع غزة الذي لا تتجاوز مساحته 365 كيلومتراً مربعاً.
الواقع يقول إن "حماس" لن تسلم معبر رفح للسلطة الفلسطينية، وإذا كان هذا هو الحال، فعلى "حماس" أن تجد مخرجاً لهذه الأزمة الصعبة على الجميع، ويكفي أن الفلسطينيين متعبون من كل أنواع الحصار المفروض عليه، لكنهم يستحقون بالفعل أن تهون مصائبهم.
المطلوب هو إخراج موضوع معبر رفح من عنق زجاجة الانقسام، والتعامل معه على أنه ملف وطني أخلاقي يندرج ضمن لائحة حقوق الإنسان، وليس من الأخلاق التعامل مع هذا الهم الوطني بـ"دان من طين ودان من عجين"، والأهم أن يخرج موضوع المعبر من عباءة الواسطة والمحسوبية والفساد، فكم نحن بحاجة إلى إدارة علاقاتنا ومؤسساتنا الوطنية بعقلانية ومهنية ناضجة.
-